+ A
A -
لم يكن محمد علي والي مصر وباني نهضتها في القرن التاسع عشر إلا مملوكاً. صحيح أنه جاء لأرضها في سياق أفضل من الذي جلب فيه مماليك آخرون إلا أنه في النهاية كان مجرد مجلوب من آلاف المجلوبين. أحضره العثمانيون من قولة باليونان ووضعوه على رأس حامية لهم في مصر ليكون ضابطاً للنظام فيها. لكنه كان مملوكاً مختلفاً، طموحاً وبناءً. تحول بدفع من إحساسه بقيمة الفرد في التاريخ إلى مؤسس دولة حديثة حكمتها أسرته إلى أن أسقطتها ثورة 1952.
لم يكن مملوكاً كباقي المماليك. نعم المماليك كانوا مثله أجانب أتت بهم الدولة العثمانية ليتولوا ضبط الأمن في بلاد مثل مصر وسوريا لم يثق العثمانيون في أهلها حتى يتولوه بأنفسهم. لكن المماليك كانوا قد جُلبوا بالقهر ولهذا مارسوا القهر على غيرهم بفظاظة. نهبوا وسلبوا وتعاركوا فيما بينهم على من يكون منهم المملوك الأغنى والأقوى. أحبوا الأرض التي وفدوا إليها لخيراتها لكنهم لم يحبوا من عليها من البشر. أرهقوا كاهل الناس بالضرائب والإتاوات.
ومع أن محمد علي كان بدوره أجنبياً إلا أنه جاء كقائد حامية كما أنه امتلك مشروعاً أوسع من منظور النهب الفردي الكلاسيكي للمملوكي القديم. فقد رأى ما تنعم به مصر من خيرات فقرر بدلاً من تركها نهباً لأمراء المماليك أن يضعها تحت تصرفه وأن يسخرها بمركزية شديدة في بناء مجد عظيم يخلد اسمه مدى الدهر. ارتأى أن يكون هو المملوك الأوحد ليبني دولة حديثة. فلما تعارض منهجه المملوكي الجديد مع المنهج المملوكي القديم كان لا بد من حل ولم يكن الحل إلا مملوكياً عبر تصفية جسدية شهيرة في القلعة سنة 1811.
تبعثر المماليك بعدها لكن الإرث الذي تركوه لم يندثر. ولم يندثر أيضاً إرث محمد علي. تشكلت ثقافتان مملوكيتان. الأولى هي المملوكية الكلاسيكية أو المملوكية اللاعلوية والثانية هي المملوكية الجديدة أو المملوكية العلوية. يجمع الاثنين معاً شعور بالاستعلاء بفضل المنصب وإحساس بالحق المطلق في استعمال الموارد. وتجمعهما أيضاً نظرة دونية إلى المجتمع وقناعة بأن ليس للناس أن تطالب بأكثر مما تمنحه الدولة.
لكن يفرق بين المملوكيتين فهم كل منهما للموارد العامة. فالمملوكية التقليدية أو اللاعلوية مملوكية لصوص ينهبون كل مورد عام ليحولوه إلى ملكيات خاصة. أما المملوكية العلوية فأسست رأسمالية الدولة واحتكرت كل شيء فزادت حجم الأصول العامة دون أن يواكب ذلك التزام بالعدل الاجتماعي في توزيع الثروة لتظهر فئة محدودة من المحظيين المحظوظين مقابل كتل هائلة من الأشقياء التعسين.
كما أنهما تختلفان في الوسائل. فالمملوكية القديمة خشنة تعتمد بشكل واضح على البطش والتنكيل. أما المملوكية الجديدة وإن لم تستبعد البطش إلا أنها تمزج تنكيل الأبدان بتنميل الرؤوس بأفكار ودعايات جذابة وناعمة طالما أن ذلك يقنع الناس ويخضعهم ويسكتهم.
وقد عاشت المملوكيتان معاً. واحدة تنهب الخير العام وتدخله في الحسابات الخاصة. والأخرى تفرض وصاية الدولة بالقوة وبالدعاية على الحيز العام. ولم تكن المملوكية بفرعيها لتتجدد إلا بسبب الاستبداد. فالاستبداد ليس إلا حالة نهب واسعة لكل شيء. للعقول والأموال والأملاك. للإنسان وللزمان وللمكان. وستظل المملوكية تتجدد طالما أن المجتمع يتعامل معها بطريقة الاعتياد النمطي وطالما أن الجذور العميقة للاستبداد لم تعالج. فبدون الاستبداد لا يمكن للظاهرة المملوكية أن تعيش أو تنتعش. وبدون المماليك لا يمكن للمستبد أن يبقى. هذه هي العلاقة العضوية وتلك هي الدائرة المغلقة التي لم تنكسر.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
14/11/2016
2689