+ A
A -
بدأت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس بتنظيم جلسات علنية يتحدث فيها عدد من ضحايا الاستبداد في مراحل الحكم المختلفة التي مرت بها البلاد قبل ثورة 2011.. وقد تم اختيار نماذج متعددة لمواطنين تعرضوا لمظالم قاسية ومن خلفيات متنوعة. وحاولت الهيئة أن تقدم صورة شاملة لتنوع ضحايا زمن الطغيان في اختيارها للمتحدثين في جلسات الاستماع العلنية بداية من حضور مناضلين سياسيين ينتمون لحساسيات سياسية وعائلات فكرية مختلفة.
بالإضافة إلى مواطنين عاديين وشرائح اجتماعية متنوعة شملت نساءً ورجالاً، طلبة وتلاميذ، ناشطين سياسيين ومنتمين إلى منظمات اجتماعية والقاسم المشترك بين الجميع هو تعرضهم إلى مظالم زمن الاستبداد.. ومثلما أكدت سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، في كلمتها الافتتاحية لجلسات الاستماع، فإن نظام الحكم السابق لم يكن عادلاً في شيء قدر عدله في توزيع الظلم والجور على جميع شرائح الشعب بالعدل والسوية.. كما ستشمل جلسات الاستماع تقديم شهادات لمرتكبي الانتهاكات الحقوقية أو المتورطين في قضايا فساد مالي، حيث ينص قانون العدالة الانتقالية على ضرورة مشاركة المتورطين في الانتهاكات ممن قدموا ملفات للاستفادة من آلية التحكيم والمصالحة وإلزامهم بتقديم اعتذار علني للشعب التونسي على خلفية الممارسات التي اقترفوها بحق الوطن.
ورغم تعرض الهيئة لحملات من التشكيك من بعض القوى والأجهزة الإعلامية القريبة من منظومة الحكم السابق، فقد ظلت ثابتة على موقفها في ضرورة تسوية الملفات الحقوقية وكشف المظالم والانتهاكات التي تعرض لها الشعب التونسي طيلة أكثر من ستة عقود، حيث تتولى الهيئة معالجة أكثر من 60 ألف ملف حقوقي تمتد على فترة زمنية بين سنوات 1955 و2013 وهي المرحلة التي عُهد للهيئة بمعالجة كل ملفاتها والبحث فيها.
وتتراوح القضايا موضوع البحث بين قضايا التعذيب وقضايا الفساد وانتهاكات متنوعة لحقوق المواطنين في مجالات مختلفة ورغم المعوقات التي تعرضت لها الهيئة خاصة بعد وصول حزب نداء تونس إلى السلطة وارتفاع صوت بعض القوى المحسوبة على منظومة الاستبداد فإن انطلاق جلسات الاستماع العلنية تشكل منعطفاً تاريخيًا مهماً بما يمثله من رمزية عالية في الكشف عن بنية النظام الاستبدادي الذي كان مهيمناً على البلاد وبث روح الوعي بين المواطنين لمنع عودة آليات التسلط من جديد وحفظ الذاكرة الجماعية بما يساهم في ترسيخ مسار الانتقال الديمقراطي وتثبيت منظومة الحقوق والحريات. وتأتي التجربة التونسية في إرساء منظومة للعدالة الانتقالية ضمن سياق عام عرفته دول أخرى مرت بتجارب مشابهة ومنها دولة جنوب أفريقيا والبيرو والمغرب غير أن الخصوصية التونسية تكمن في أنها الدولة الوحيدة من دول الربيع العربي التي نجحت نسبيا ـ رغم الصعوبات- في تحقيق انتقال ديمقراطي بعيداً عن التحول إلى حرب أهلية أو الانتكاس إلى مرحلة ما قبل الثورة عبر عملية انقلابية وتأتي جهود هيئة الحقيقة والكرامة كمؤسسة دستورية تم إقرارها في دستور ما بعد الثورة لترسيخ خيار الحرية والديمقراطية وإيجاد آليات للمصالحة الوطنية بعيداً عن منطق التشفي والانتقام وفي ذات الوقت دون تكريس منطق الإفلات من العقاب لمن أجرم في حق الشعب.. وربما لم تكن مسيرة استعادة الحقوق في تونس مثالية أو كما ينبغي أن تكون بالنسبة لبلد عاش لعقود في ظل نظام الحزب الواحد والعقلية الاستبدادية التي تفرط في انتهاك حقوق الإنسان، إلا أنها تظل في النهاية تجربة حققت بعض النجاحات وتعرضت لبعض الانتكاسات التي لن تمنع مواصلة سيرها الحثيث نحو بناء دولة تحترم فعلياً الحقوق الإنسانية، كما نصت عليها المواثيق الكونية ونادت بها الشرائع السماوية.

بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
22/11/2016
2881