+ A
A -
وحمى الاحتمالات ليس هناك قرار أشد غموضا من الانسحاب الروسي من سوريا إلا قرار التدخل الروسي في بادئ الأمر! بني قرار التدخل على احتمالات وتمت مناقشته وتحليل أسبابه بصيغة الاحتمالات ويحتمل ومحتمل.. الخ، وبني قرار الانسحاب كذلك على احتمالات بحيث أصبحت كلمة «احتمال» أكثر كلمة يرددها المحللون والكتاب في مقالاتهم وندواتهم عندما يناقشون أسباب الانسحاب الروسي من سوريا ولن ننسى أخواتها مثل «أظن» و«أعتقد» و«ربما»! ولن يعرف أحد بشكل متيقن ماذا أرادت روسيا عندما تدخلت في سوريا وماذا أرادت عندما انسحبت بهذه الطريقة الهستيرية..!

يعتبر «السبب الاقتصادي» من أهم الأسباب التي أبرزها المحللون السياسيون الذين خمنوا بأن انخفاض أسعار النفط وعدم قدرة روسيا على الانفاق الحربي من أسباب الانسحاب الروسي، أعتقد أن هذا بمثابة تبرير طفولي. فروسيا تدخلت في سوريا وأسعار النفط عند أدنى مستوى تاريخي لها وأعلنت الانسحاب من سوريا وأسعار النفط عند أعلى مستوى لها في عام 2016.

وهناك من يربط الانسحاب الروسي السريع من سوريا ببعض التحركات في أوكرانيا أو في أوروبا المتجمدة أي النرويج وبقية الدول الاسكندنافية! قالوا مثلا إن بوتين شعر بتهديد القوات العسكرية الأميركية على الحدود بين دول الناتو وروسيا، خاصة بعد قرار الرئيس الأميركي بنشر ألوية قتالية دائمة في دول البلطيق وأوروبا الشرقية على طول الحدود الروسية ضمن المبادرة الأميركية التي عنوانها «إعادة الطمأنينة» إلى أوروبا المرعوبة، حسنا، هل شعر بوتين بالتهديد للتو، ولماذا يُغفل المحللون كون المشكلة الأوكرانية، وإشكالاتها والصراع مع أوروبا وأميركا، سبقت قرار التدخل الروسي في سوريا من الأساس.

ومن الأسباب التي يرددها المحللون السياسيون كذلك مسألة تسرب أنباء عن وجود نقاش للوصول إلى حل سياسي بقيادة الأمم المتحدة وأميركا وروسيا وغيرهم! عجبا، كأن من يقول بذلك لا يعرف أن مفاوضات جنيف سبقت التدخل الروسي في سوريا بل إن القرار الأممي المهم رقم 2254 والذي يعتقد البعض أنه مرجعية الحل السياسي في سوريا صدر في منتصف شهر ديسمبر الفائت أي قبل أكثر من ثلاثة أشهر من إعلان الانسحاب الروسي! فما هو الأساس ليكون التـفاوض أو الحل السياسي كما يتوقعون سببا للانسحاب الروسي السريع والمفاجئ.

ثم نأتي إلى موضوع تزويد المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة وحادث إسقاط طائرة للنظام بصاروخ حراري والذي وضعه بعض المحللين كسبب لقرار بوتين بالانسحاب! القراءة المتأنية للقرار الروسي تقول إنه من المستحيل أن يكون هذا سببا مهما فالدول التي تـتورط في نزاعات مثل هذه لا ينقصها الجهد المخابراتي لمعرفة مصادر الخطر ولا تعوزها القدرة على مواجهة الخطر أو التكيف معه، كما إن القادة الذين يسيطرون على الأجواء في نزاعات معقدة لن يتخذوا حتما قرارات بأسلوب الفعل ورد الفعل، أي تسقط الطائرة اليوم ونـنسحب غدا! ما هذا؟!

مهما كانت دوافع روسيا من التدخل في سوريا في بادئ الأمر ومهما كانت أسباب الانسحاب الروسي السريع، وإن كان انسحابا جزئيا، فمن المؤكد إن القرارين جاءا بـ«تـفاهمات» مع الأيدي الخفية التي تدير الأزمة السورية من قبل ومن بعد! التدخل الروسي ابتداء جاء كـ«مهمة إنـقاذ» لنظام الأسد خوفا من رعب ما بعد سقوط الأسد فيما لو سقط بالقوة! وحقق التدخل الروسي مكاسب مهمة منها تعزيز قوة النظام وإجبار الأطراف المختلفة على الهدنة وفتح الطريق للمفاوضات إضافة إلى تحقيق السيطرة الروسية- الأميركية المشتركة على مفاصل الأزمة وتـشعباتها، بعيدا عن تركيا أو إيران أو غيرهما، وذلك استعدادا للمرحلة التالية.

وليست المرحلة التالية إلا خطوات لاستكمال الحل السياسي المقـترن بإعادة انـتاج النظام بدون الرأس والمحافظة على الدولة السورية بنظامها العلماني البعثي خاصة الجيش والأمن، ومن ثم تسويق المصالحة الوطنية وديا وسياسيا عن طريق المفاوضات أو بالتهديد وتوليد الفزع من تـقسيم سوريا أو خيار «الفدرلة»! وليس إعلان الأكراد السوريين عن (حكم ذاتي) إلا حجر رمي في بركة الأزمة السورية لتسهيل تطبـيق الحل الأميركي- الروسي المشترك، فهل يقف الآخرون موقف المتفرج أم إن الأزمة السورية متمادية؟!

بقلم د. صنهات بن بدر العتيـبي

copy short url   نسخ
22/03/2016
1962