+ A
A -
قبل أن تجف أحبار الأخبار عن فوز ترامب خطبت تيريزا مي خطبة تختلف عن أي خطبة لها من قبل، بان على وجهها علامات توحي أنها هي من فازت بشخصها وبمعناها، وتحدثت عن رياح التغيير، ونعت على (الليبرالية الجديدة والعولمة) تضحيتهما بأجيال فقدوا مكانهم في عربة الاقتصاد والتنمية.
تيريزا مي هي خليفة مارقريت ثاتشر في الزعامة المؤنثة لحزب المحافظين وكرسي رئاسة الوزراء، وكانت ثاتشر واحدة من رواد نظرية الليبرالية الجديدة وهي من عولمت الاقتصاد البريطاني وفتحت أبواب هجرة المصانع نحو الأيادي الرخيصة في آسيا وقضت على أحلام العمال البريطانيين وحطمت أسطورة النقابات التي لا تقهر.
وتيريزا مي كانت لا تجرؤ بحال أن تمس النظرية العولمة ووقفت مع ديفيد كاميرون في الحماس لبقاء بريطانيا ضمن أوروبا، وبعد التصويت الشعبي المضاد لأوروبا انسحب كاميرون وتسلمت هي القيادة، وكان لا بد أن تأخذ بفكرة الخروج، مع أنها ضدها أصلا، وشاع في بريطانيا رأي بأنها منافقة سياسية، وأنها ترغب في ترك الأمور تتسكع بين ردهات البرلمان أملا في تعطيل الخروج. وظلت هي تبعد التهمة عنها عبر تردادها احترام تصويت الشعب.
ثم هبت رياح التغيير مع ترامب، وتكشف المخفي، وصارت الأصوات تجهر برغبات مكبوتة وجمر من تحت الرماد، وهي رغبات في الانكفاء للداخل، والبحث عن اقتصاد وطني يصنع مجدا ذاتيا بعيدا عن التكتلات المنافية للاعتزاز الوطني الذاتي، وهذه الزعيمة الأوروبية (ظاهريا ربما) خرجت لتحتفل بهذا الجو المتغير، حتى صرحت عن بريطانيا العظمى باقتصادها الذاتي والرائد عالميا، وتم تناسي أوروبا الكتلة، لتأتي بريطانيا التي تسمى أوروبا بما وراء البحار (OVERSEAS).
هذه ظاهرة ترامب الذي جعل المسكوت عنه والمخجل سابقا، وإرادة الاستقلال الوطني، جعلها تخرج من قمقمها بعد أن كانت من الرجعيات التي لا تقبل والقوميات التي تجاوزها المعنى الأوروبي وكلمة الرميزة (اليورو) بوصفها عملة وبوصفها ثقافة.
ظاهرة ترامب مثل غطاء القدر الذي طار عن قدره ففار القدر بمواده وسال على المائدة، وستسيل رغبات كثيرة تعيد العجلة للوراء لدرجة تجعل العنصريات ومعاداة الأجانب وتسامي اللون الأبيض شعارات سياسية تقود لكرسي الحكم، وليس لكرسي المحكمة.
لا شك أن البشر في طبعهم نسقيون وفي غريزتهم عنصريون، ولكن الثقافة الديمقراطية حاربت كثيرا من أجل تخليص العقول من أوساخها، غير أن النسق تمكن من الاحتيال على الديمقراطية وسرق النار من الساحر، ولعبها بمهارة مماثلة حتى أدرك ما فاته. وهذا لن يكون نهاية المطاف، وكما أن فوكو ياما ظن يوما أن الليبرالية والعولمة هما ذروة التاريخ فإن القاع قد تحرك وقلب الطاولة، وكما انقلبت الطاولة ثقافيا فهي ستنقلب مرة أخرى، في تداولية لا تنتهي في الصراع ما بين الأنساق، غالب ومغلوب مع تبادل دور الغالب باستمرار، وهابيل وقابيل معا لم يموتا وكل واحد منهما خلف خلفا له، وكل خلف يقع في لعبة تشبه مباريات كرة القدم يوما لهذا ويوما لذاك.
copy short url   نسخ
10/12/2016
4567