+ A
A -
في حياة كل منا أناس بسطاء مروا في دروب وجودنا.. قد لا يكونون أعلاماً أو مشاهير بل محض مجهولين.. لكن عمق آثارهم قد علّم بحفريات بصماتهم على وجداننا واثار خطاهم على أتربة الدروب قد أطربت نفوسنا، على أنهم لا يدرون بعمق الأثر الذي خلّفوه، لتأتي لحظة لا تعرف أنت سبباً لمعايشتك لمشهد بذاته مر في حياتك كأنه لا علاقة لك به، كمقطع «فاصل ونواصل».
من هؤلاء رجل فاضل قابلته لسويعة في حياتي على أني سمعت عنه طويلاً.
كان زوجاً لأم صديقتي التي تعيش بمدينة ساحلية كنت أمضي فيها مع عائلتي إجازة الصيف وقد تعارفنا، فوجدتني أمام فتاة تتحدث بتبجيل نادر عن زوج والدتها.
كانت تتحرى الحديث عنه وكنت أتحرى السمع، فهي ابنة لرجل أعمال واسع الثراء، محب لأوحال الشهرة ومزالق جاه المشاهير، مزواج مطلاق، ارتبط بأكثر من فنانة وهجر.. تماماً كما هجر أبناءه إلا من رعاية من آن لآخر كلما سنحت الظروف.
فسألتها: أيكون اجلالك لزوج أمك بسبب إفراطه في تدليلك؟ أيغمرك بالهدايا؟
فأجابت: ولا ربتة كتف، بل يتعمد عدم الاقتراب، حتى حينما يعود من السفر، يُسَلم ولا يصافح، ولا يكتفي بهدايا بل يخصص لي ولإخوتي مصروفاً شهرياً يوازي زهاء 200 دولار، ويستحلفنا ألا نخبر أمنا كي لا تشعر بحرج كفالته المادية لأبنائها.. وإذا غضبت فهو يواسيني وإذا مرضت فهو يبكيني وإذا خرجت فهو ينتظرني وإذا ذاكرت فهو يدعو لي، كما لم أر معه أمي يوماً باكية، اللهم لو سافر، فهي ترثيه، ثم انه يتحدث عن والدي باحترام شديد غير مفتعل ويحثني على مودته، ورفض بلطفٍ أن اناديه «بابا»، ووضح لي أن هذا شرف كبير، لكنه يخشى أن يلحظ والدي أني اختص سواه بهذا اللقب فيتألم وإن لم يظهر وجعه.
تروي لي انه في خطوبة أختها تعمد السفر دفعاً لأي حرج قد يجرح والدها لتواجدهما بنفس المكان، مع أنه تكفل بمصروفات حفل الخطوبة وحتى فستان الحفل وأجرة الماشطة.
لقد عصف حديث صديقتي بتراثي الذي ورثته عن سمعة أزواج الأمهات وتيقنت أن القضية ليست بأنساب ولكن بجوهر الإنسانية لدى المرء.
كان هذا الرجل لصديقتي يقيم بنفس النزل الذي أقيم فيه مع أسرتي، فوجدته رجلاً متأنقاً وقد استقبل ابنته في بهو الفندق كضيفة، التقط معها صورة للذكرى وسلم بفتور ومضى لسبيله.
فاضطربت صديقتي ورجتني أن أصحبها لمنزلها، ففعلت، ولدى دخولنا وجدنا أمها وزوجها يستقبلونني أنا الغريبة كابنة و: «أهلا بصديقة فلانة، وحماتك ستحبك، والبوري يناديكم «وأقسام مغلظة، تستحلفنا للبقاء لتناول الغذاء جمعاً، ورأيت زوج الأم يقوم من مجلسه ويعطيه للضيفة الصغيرة تكريماً لابنة زوجته وضيافة لا تجدها الا في اخلاق أجدادنا من البدو الأصّل.
قالت لي صديقتي: لو شاهدتي دمعي كيف سفحته غزيراً يوم انفصل والداي ثم كيف انهرت يوم تزوج كلا منهما، لعلمت مدى جهلي بقدر الكنز الذي كان يدخره لي ربي.. فوالدي الواسع الثراء لم يغدق علي يوماً لا من مشاعره، لا من جيبه ولا من رعايته عشر ما فعل زوج أمي.
لقد خبرت شعور هذه الفتاة لأب أمعن في العقوق، ثم أحالني الله لاختبار النقيض الخاص بأحاسيس الابنة الربيبة لإنسان تفانى في البِر دونما مَنّ. فتيقنت أن الإنسان يعلو على اللقب، وعبثاً لو حاولت الشرح لكنها نعم الله يؤتيها كيف يشاء، والبطر كل البطر يصدر من سفيهاً يجعل عمق قطرة ما مُنع تعدل اتساع محيط ما مُنح.
وأختم بكلمة لزميل الحرف أدهم الشرقاوي:
البعض بار حدّ الذهول
والبعض عاق حدّ العجب!
copy short url   نسخ
17/12/2016
5207