+ A
A -
قبل أن يبدأ يوم العصيان المدني في السودان، 19 من ديسمبر الجاري، أعلن الناطق باسم الحكومة السودانية فشله، وأن منفذيه خونة وعملاء بحسب الجزيرة، ويبدو هذا التصريح في حد ذاته مؤشراً مهماً لأزمة الممارسة السياسية للحكومة السودانية، وتوتر العلاقة مع المجتمع المدني، فضلاً عن القطيعة الجديدة مع المعارضة السياسية.
التي تعاني هي بذاتها من إرثٍ، وترهل لم يشجع المجتمع المدني الجديد على المراهنة عليها اليوم، وهو ما كان سائداً في الرأي العام السوداني، منذ بروز فشل ثورة الإنقاذ سياسياً، والتي كشف الشيخ حسن الترابي، رحمه الله، جوانب مهمة للغاية في منعطفات انحرافها، وتمكن الفساد المالي منها، وصدمة الحقيقة من سقوط صورة أن الإسلاميين حين يمارسون تجربة سياسية، فهم المتطهرون من آثام السياسة.
وهذا العرض لتاريخ التجربة، الذي قدمه الشيخ حسن في شاهد على العصر في قناة الجزيرة، وإن كان شريكاً رئيساً في أزمته، لا يخص السودان وحدها، ولكنه درسٌ لكل الحركة الإسلامية، بأن حصونكم مهددة من الداخل، وليس من المستبدين والقوى الدولية وحسب، بل من ضعف التجربة والتقوى الوجدانية والحصانة السياسية، وأن المال والسلطة فتنة عمياء لا تحمي من يأتي باسم الدين، وهي ليست قضية جديدة، وإن مثلت السودان حالة مختلفة، لكونها أول وصول جماعي للحركة الإسلامية للحكم عبر انقلاب عسكري.
لكن المشكلة المتفاقمة، أن انحراف النخبة السياسية في السودان لايزال يُقدم باسم الإسلاميين، وهو ما سيُراكم من رصيد مسؤوليتهم مستقبلاً، ولا يضمن لهم الحكم، مهما طالت سلطة الرئيس البشير، والقضية الأخرى أن التعلق الفردي للرئيس البشير بالرئاسة، رغم وعده السابق بالتخلي عنها، أضحى بالفعل حكماً فردياً، لا يمثل الجمهور الإسلامي العام، فالرئيس له فريقه الخاص في المؤتمر الوطني، لكن استشعار كتلة الإسلاميين الأكبر لايزال باقياً، بأن هذا الحكم ينتمي بالجملة لهم، ولديهم مخاوف مما بعد إسقاطه.
وهنا المأزق، فسجل تجربة الإنقاذ لا يمكن أن تُعمم عليه كل السيئات، فتراث الأزمة السودانية قديم، كما أن هناك شعبية حقيقية يمتلكها الإنقاذ، سواء كقناعة بأن هذا المستوى من الحكم مناسب لظروف المنطقة ولواقع ومستقبل السودان، أو الخشية من أن اضطراب النظام ثم سقوطه سيأتي بالهاوية، ويُدخل البلد في دوامة الحرب الأهلية، وحرب الأقاليم، المتبقية بعد فصل الجنوب.
وهي مخاوف مبررة، بناء على واقع المنطقة الجديد المفجع، والحقيقة أن العصيان حصل بالفعل لكن لم يكن بذاك المستوى الذي يهدد النظام أبداً، وربما مرد ذلك إلى قناعة الشارع العام بالخوف من البديل، الذي استفزه أيضاً التبشير بخطاب الانتقام من الإسلاميين، وفي ذات الوقت فإن مستوى ما جرى يكفي لوضع تصور لصعود العصيان، في ظل القمع الإعلامي والأمني واستمرار تضخم الفساد الاقتصادي، الذي ينسب لنخبة متنفذة.
فأين الطريق الثالث؟
الحقيقة أنه لو قدر للسودان أن ينتخب شخصية توازن للإنقاذ لربما لم يوجد، مثل د. غازي صلاح الدين، فمع شراكته في مسيرة حكم الإنقاذ، إلا أن صوته الإصلاحي ونبذه للفساد ورفض التعمية باسم الدين، كان يظهر بين مرحلة وأخرى، وقيادته اليوم لحركة إصلاح هو مخرج مهم لمرحلة انتقالية، تُطمئن الإسلاميين وتؤسس لعهد جديد لسودان مستقر بنظام عدالة وتنمية، وقد يتطلب الأمر تدرج هذه المراحل، فيُعلن عن انتخابات برلمانية نزيهة، ثم رئاسية، يحقق بها الرئيس البشير ضماناً انتقالياً سلمياً لبلده، بدلاً من الزج به لمستقبل صراع خطير.
وإدراك الحركة الإسلامية لواجبها الوطني اليوم، سينعكس على رصيدها الشعبي، وأمن السودان الاجتماعي ووحدة أقاليمه، في حين اصطفافها إلى آخر يوم مع تراث الفساد، وشمولية الحكم التي تضرر منها المواطن وفي عهدها قسّم السودان، سيرتد بصورة سلبية عليها، إن الحركة اليوم بحاجة إلى توحيد جناحيها في إطار إصلاحي تجديدي ناقد ومشروع مدني، يستفيد من تجارب الحركات الإسلامية المرة، وأن الديمقراطية المتينة بشراكتهم، وروح الشعب الإسلامية المعتدلة، هي الضمان لا الدفاع عن القمع والفساد.

بقلم : مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
29/12/2016
4910