+ A
A -
وكأن الشاعر عبدالرحمن الشهري، في ديوانه الجديد: «صعود متأخر»، الصادر عن دار أثر هذا العام، عاش بطريقتين. عاش بالطريقة التي نقوم بها جميعا، ويقوم بها كل الناس، كل يوم. وطريقة أخرى، طريقة نظر لها الآن، وقرر كتابتها في قصيدة، مجموعة قصائد، ديوان، ديوان وظف فيه السرد لمصلحة الشعر، روض فيها الحكاية، فتتها، ونثرها في بنية شعرية لا تقبل الشك. إذا هو قرر كتاب سيرته، سيرة من يشبهه، متتبعها منذ الولادة، إذ أنه «المولد حديثًا في بيت من صفيح، يجيد امتصاص الحرارة وتسخين الذكريات»، ولعله – أي الشاعر – أصيب بالعدوى من هذا البيت الصفيح، فكل ما يفعله طوال الديوان ما هو إلا تسخينا للذكريات، تلك الذكريات الشعرية المقسمة على طول الديوان، والتي تبدأ بالمناسبة قبل الولادة، قبل ولادة الشاعر نفسه منذ أن كان هاجسا للأمهات:» مثل ثمرة نضجت كما ينبغي، ثم قفزت إلى التراب، سقطت عن شجرة حلم جارتنا الحُبلى، التي أسرت لأمي أنها رأت في المنام: ديكًا أسمر يمشي مختالاً باتجاه البيت إلى سأولد فيه». هذا المولد المهدوي بطريقة ما، ذائع الصيت في التوقعات والمسارات والتنبؤ، المصاب بعدوى التذكر، سوف يستمر معنا طوال هذا الديوان الشعري الفاتن، في مراحل مختصرة لكنها تشمل كل شيء تقريبا، لا يفوت أي مرحلة من المراحل التي تشكل في مجموعها تاريخا يمكن رسمه لجيل كامل. لشكل حياة، من الممكن، أثناء القراءة تخيلها. إذ أن القصائد في مجملها، لا تميل إلى التعقيد، ولا إلى البهرجة الشعرية الإضافية، قصائد كتبت لتخدم غايتها النهائية، غايتها كوحدات، وغايتها عندما تنتظم سوية مشكلة كامل هذا الديوان الشعري. إذ، فيما لو أردنا اختبار مثل هذه الرابطة الضمنية لمجموع هذه القصائد، القيام بلعبة صغيرة، تتمثل في أن نتخلص من عناوين تلك القصائد، التي تعطي لكل قصيدة مساحتها الخاصة في الديوان. وبالمناسبة لنلق نظرة على تلك اللذة المتناهية في اختيار هذه العناوين التي جاءت كالتالي:» ما تهجس به الأمهات – تنويه لابد منه – وكذلك الحناء – ما لا يمكن نسيانه – حكمة، من كرم خاص – شجرة تنصب الكمائن – سجل خال من المغامرات – بعيدا من الضجيج – احتمالات مدينة لم تغرق بعد – أقصر الطرق إلى ارتداء بشت – فضاء آخر للمجاز – من قبيل التسلية – إلى أين يذهب الفرح – فضيلة السهر مع حمى – إساءة متعمدة للصباح – فحص مجاني للعينات – أخفاف عاطل عن العمل – على سبيل الحنين – من أجله فقط.. من أجل الجد – اقتفاء أثر قصيدة – ورقة من روزنامة شاعر أسود – صعود متأخر وربما رثاء». لا يمكن توقع شيء إلا أن الشاعر أخذ وقته كاملا في الاشتغال على هذه العناوين، ونجح. لكن، عند قراءة الديوان، قافزين على تلك العناوين، ستتمثل لنا صورة بانورامية تشكل سيرة كاملة تقريبا، منذ أن ولد «أشعث، أغبر، يهيمن على وجودي الطارئ رملٌ كثير» متحركا في حارته أولا وهو طفل، مصورا كل ما يحدث هناك، لأنه:» لا أحد ينجو من سطوة الذكرى، وبالأخص لسعات النحل المؤلمة، التي تجعل الملسوع يتفادى قفير النحل»، هذه ذكريات لا يمكن للشاعر أن ينجو منها إلا بكتابتها، وهو ما قام به، صحيح أنه «بتعديل بسيط كان يمكن لطفولتي أن تمضي على نحو مختلف» هذا التعديل الذي لم يحدث لحسن الحظ. وهكذا استمر الشاعر عبدالرحمن الشهري في «اقتفاء أثر قصيدة»، لينهي عملا شعريا، لامس فيه، دون أن يتخلى عن المكون الشعري، روح السرد. لامس الحكاية ووظفها، دون أن يتلف بها الشعر، وأنجز في النهاية عملا يُضاف إلى عمليه السابقين» أسمر كرغيف – لسبب لا يعرفه»، ويؤكد ما يعرفه الجميع عن هذا الاسم الجميل في الفضاء الشعري العربي.

بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
01/01/2017
4530