+ A
A -
توقفت طويلا عند عبارة قالتها شابة بلجيكية فقدت ساقها خلال الهجمات الإرهابية الأخيرة التي استهدفت مطار بروكسل ومحطة للمترو، فالفتاة التي التقتها الـ بي بي سي بعد التفجير بأيام قليلة لم تدعُ على القتلة ولم تعلن كراهيتها لهم بل قالت بكل هدوء وهي التي فقدت حتما إحساسها بالأمان إضافة إلى ساقها: «لا أحمل أية ضغينة لأحد وأسامح من كان وراء هذا.. أرجو أن نصل إلى وضع نعيش فيه جميعا بسلام ومحبة»!

عجبت كثيرا كيف تتحدث فتاة في ريعان شبابها عن السلام والمحبة وهي التي ستقضي حياتها متكئة على عكاز بسبب عقول مريضة تم التغرير بها وإقناعها بأن الطريق إلى الجنة تبدأ من فوق أشلاء مدنيين بينهم نساء وأطفال وبشر من كل الديانات، وإن سبب وجودنا هو أن نقضي حياتنا في معارك وصراعات حتى يتغلب أحدنا على الآخر، وهو بالمناسبة هدف عجزت أية حضارة أو قوة عن تحقيقه حتى اليوم.

منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه في يناير عام 2011 وما تلاه من ثورات نجحت في حالة واحدة فقط- بشكل نسب- وثمة نزوع نحو العدوانية وكراهية الآخر بشكل لم يسبق له مثيل، ففي بلدان كثيرة لم يعد التعايش مع الجماعات العرقية أو المذهبية المخالفة خيارا ممكنا كما بات واضحا في دول مثل ليبيا واليمن والعراق وسوريا وغيرها، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن فعلا أن تتعايش تلك الجماعات ثانية بشكل سلمي لو قدر لجميع الصراعات القائمة الآن أن تحسم سلميا أو عسكريا؟ وهل يمكن أن نصل يوما إلى وضع يتم فيه احترام المواطن العربي داخل دولته لمجرد كونه يحمل جنسيتها، وترك الإرث القديم الذي يحدد مرتبة الشخص داخل الدولة بناء على اعتبارات قبلية وعرقية ومذهبية في معظم الأحيان؟

الديمقراطية «الحقيقية» كما أثبتت تجارب جميع أمم الأرض– باسثناء المنطقة العربية– هي الحل السحري الوحيد الذي يستطيع نشر التسامح وقبول الآخر لأنها تتعامل مع الجميع كشركاء لا كأبناء بعضهم مميزون وبعضهم منبوذون، ولا شك أن الإرث الديمقراطي الحضاري الذي جعل فتاة فقدت قدمها في هجوم إرهابي توجه رسالة غفران وتسامح يستحق أن نجربه في تكرار لتجارب رائعة أقدمت عليها دول مثل ماليزيا وتركيا.

يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله.

المجتمعات لا تبنى بالكراهية والإقصاء بل بالعدل والقسط.. درس قضى عشرات الملايين من الأوروبيين نحبهم قبل أن يتعلمه أبناؤهم.. أما آن الأوان لنعي الدرس؟!



بقلم : لؤي قدومي

copy short url   نسخ
30/03/2016
2069