+ A
A -
بعيداً عن ذهنية الجلاد والضحية المعشوقة عربياً، والتي تلوم الجلاد وتبرئ الضحية، فإن الفوضى العارمة في العلاقات الدولية تبقى مسؤولية الاثنين معاً: الجلاد والضحية. الجلاد لأنه يتمادى في الافتراء والافتراس. والضحية لأنها تترك نفسها نهباً للافتراء والافتراس. ولن يرضي هذا الرأي من يجعلون الأخلاق حكماً على العلاقات الدولية خاصةً وأنهم اعتادوا أن يروا العالم عبر ثنائية الخير والشر، الأبيض والأسود، الطيب والشرير، والجلاد والضحية.
وهي ثنائية ليست معيبة في بعض الحالات لكنها ليست وافية في كل الحالات. فالعلاقات الدولية وإن كانت لا تستطيع أن تتحلل من القيود الأخلاقية بالمطلق، إلا أنها مع ذلك تجري منذ الأزل على أسس انتهازية: فمن يجد فرصة لا يضيعها ومن يعثر على غنيمة لا يفوّتها ومن تقع أمامه ضحية عليه أن يُجهز عليها.
ولهذا كما يوجه اللوم للجلاد لانقضاضه على الضحية بعد ما يقوم به من استكشاف، ينبغي أن يُوجَّه لوم مماثل للضحية لترك نفسها في حالة انكشاف. فلولا انكشاف الضحية ما كان استكشاف الجلاد، ولولا تراكم علامات الضعف على دول ما كانت ممارسة القوة بجنون من دول أخرى. فلا يشجع الدول المهلكة على إثارة الفوضى في العلاقات الدولية إلا الدول المتهالكة. فالدول المهلكة جبارة في الاستكشاف. أما الدول المتهالكة فمحتارة تعاني الانكشاف.
الدول المتهالكة تجمعات إنسانية رخوة وهشة وفاشلة. نسيجها الداخلي ضعيف. تعيش حروباً أهلية تستحضر فيها التاريخ بقوة وتلغي بسببه التفكير في المستقبل بإحكام. نظمها السياسية اغتالت حلم الحرية وألغت احترام الإنسان. ونظمها الاقتصادية اغتالت بدورها حلم العدالة وسكتت على انتشار الفساد والرشوة والمحسوبية. كل ما فيها متهالك. ليست لديها بنية علمية مستقلة وإنما تتسول المعرفة في جامعات الدول المهلكة. تلهث وراء تكنولوجيا وفنون وموسيقى الدول المهلكة. ولا تملك غطاءً دبلوماسياً غير ما تقدمه الدول المهلكة. وهو غطاء دائماً ما يشف ويكشف، يفضح ولا يستر. ومثل هذه الأشكال من القصور لا تعبر فقط عن الضعف والتهالك وإنما تنذر بتحول تلك الدول من متهالكة إلى هالكة. فكل الدول التي هلكت كانت قبل زوالها متهالكة. لم تداو الإعياء الذي أصابها ولا التهالك الذي لحق بها فهلكت وماتت.
وكيف تفوت الدول المهلكة الفرصة وأمامها دول كثيرة متهالكة؟. فالدول المهلكة قوية تسيطر على حق النقض في الأمم المتحدة. وتمتلك أساطيل مهولة تجوب البحار، وجيوشا مزودة بأفتك الذخائر وقدرات لوجستية تؤهلها للتدخل في أي مكان بسرعة البرق. ولديها أيضاً قاعدة علمية صلبة تعرف كيف تسخرها في صناعة القوة. وهي التي تسيطر على المؤسسات المالية العالمية وعلى النصيب الأعظم من التجارة الدولية وتتحكم في صناعة الصورة والرأي. هذه الدول المهلكة تخشى بعضها وتتنافس مع بعضها وتتسابق في إظهار قدراتها المهلكة. أميركا وضعت يدها مثلاً على العراق فوضعت روسيا يدها على أوكرانيا. وللدول المهلكة ماض استعماري تنافست خلاله من أجل السيطرة على كثير من دول الجنوب المتهالكة.
وقد أدى تنافس الدول المهلكة على الدول المتهالكة إبان الحقبة الاستعمارية إلى حربين عالميتين شرستين كرسا أعلى مستوى من الفوضى الدولية ربما إلى الآن. وبالرغم من استقلال كثير من الدول المتهالكة عن الدول المهلكة قبل أكثر من نصف قرن إلا أن تهالكها استمر، فكانت أشبه بالضحية التي لم تتعلم الدرس. فبدلاً من أن تستر بالاستقلال انكشافها راحت تظهره أكثر لتشجع الدول المهلكة على افتراسها أكثر وأكثر، لتصبح الدول المتهالكة بذلك شريكة للدول المهلكة في صناعة الفوضى. دخلت الدول المتهالكة والدول المهلكة في تحالف غير مكتوب. الأولى تغري والثانية تفترس. الأولى ضعيفة لا تعالج ما لديها من قابلية للافتراس والثانية مندفعة تفاخر بما لديها من قدرة على الابتلاع.
ولم يكن عجيباً أن ينتهي الحال بكثير من الدول المتهالكة وقد تحولت إلى دول هالكة كل ما تقدمه ملاذات آمنة للإرهابيين وممرات لتجارة السلاح والمخدرات. دول تملك أسوأ سجلات ممكنة بكل مقاييس الأداء الصناعي والزراعي والسياسي والاقتصادي.
لقد كثرت الدول الهالكة وعجزت الدول المتهالكة ولم تشبع بعد الدول المهلكة. تكون ثالوث يعمق الفوضى الدولية. دول هالكة سهلة الاختراق. ودول متهالكة تقاوم علها تتجنب الهلاك. ودول مهلكة ذراعها طويلة ولسانها أطول ومعدتها لا تشبع. والثلاثة معاً المهلكون والمتهالكون والهالكون لا يضيفون للعلاقات الدولية إلا مزيداً من الفوضى والتوتر والقلق. وأكثر ما يقلق بالنسبة لمنطقتنا أن بعض دولها ينتمي للفئة الهالكة. أما أكثرها فدول متهالكة تحاول فعسى الله أن يساعدها إن ساعدت هي نفسها أولاً.
بقلم :إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
10/04/2017
3573