+ A
A -
قرأت مقالاً رائعاً للكاتبة المصرية غادة بدر عاتبت فيه نفسها كونها لا تحتضن أبناءها إلا قليلاً. فغمرتني سعادة بالغة، كوني برغم عيوبي الكثيرة، إلا أنني من نوعية الأمهات اللائي يحق لهن منح أنفسهن شهادة في الإغراق بالأحضان.
فأنا أغمر جواهري الثلاث بالأحضان صبح مساء، أيقاظا ونياما. ولو عنفتهم أسارع بالاحتضان والاعتذار كما أسمح لهم أن يعنفوني، كونهم ما أن يفعلوا، إلا ويندموا ويعتذروا ثم، ثم يحضنوني ويغمروني.
أقبل أياديهم وأصابعهم خنصرهم، بنصرهم وحتى الإبهام. فأنا عاشقة للحنان وأعترف أن لي أوقات ضيقي ويصدر مني أحياناً ما يصدر عن بعض الأمهات: «ناموا، ناموا»، إلا أني ما ألبث أن أستعيد صفوي، فأعيد ممارسة هواية الاحتضان.
لكم أعشق رائحة غمرة الصباح المنكهة بخمرة رائحة أنوفهم الممزوجة بعطر جلودهم. كما أستعذب حضن العودة من المدرسة الملطخ برائحة شعورهم المبللة بالعرق. وأستمتع بشذى الحضن عقب طعام الإفطار بنكهة خبز الفجر. ولا أحرم نفسي من أن أحاضنهم عقب خروجهم من بركة السباحة بطعم الكلور أو بطعم اليود لو خرجوا من المتوسط. واهٍ ما أحلى غمرة حارة وهم يأتونني عشاء يتباكون من صفعة والدهم فيكون الحضن مبللاً بالدموع.
وأحياناً ألحظ عطر الألوان ممزوجاً بعريقات جهد اللعب وهم عائدون من جولة للهو مع أبناء الجيران. كما لا أحرمهم من حضن تصبيرة وهما يذاكرون برائحة أقلام الرصاص والمحايات. وأعتقد أني أبخل من أن أمنح زوجي فضيلة غمرهم عقب حمام المساء لأستنشق وحدي عبق الطهر في أبدانهم.
ولن أنسى حضن صغيرتي لي ونحن بإسطنبول حينما كانت تلوذ بي من بَرَد الثلج.
وإن سافرت دونهم، فأنا أغمرهم في أحلامي وفي صحوي وأقبل شاشات الحاسوب والصور في المحافظ، فتكون قبلاتي لهم بطعم الشوق والحنين.
وثمة قبلة المفاجأة وسببها محض اللهو ولا مكان محدد لها.
وهناك أحضان الظهيرة بفناء مدرستهم حين أذهب لإحضارهم وحين لمست حياءً من صغيري بعدما توغل في سن الثانية عشرة، فبت اصبر حتى أختلي به في السيارة ثم يهطل عليّ بقبلات كالنجم مفضضة أو كالشمس مذهبة كأننا لم نر بعضنا مذ عقود!
وهناك أحضان العشاء قُبيل النوم كما وأحضان المصالحة وأحضان المصافحة وغمرات الاعتذار وأحضان الأبرار وقبلات التدليل والمسامرة حتى أطلقت على صغيرتي «جروي المفضل» لتمسحها في كالجرو الوفي، فتزيد من التمسح طلباً للمزيد من الأحضان، فلا أتوقف إلا حال شعوري بضيق تنفسها.
وهناك أحضان مبروك النجاح بطعم السكاكر وهي مختلفة عن حضن أشكرك أمي لطهوك البطاطا المقلية.
وهناك حضن الابتزاز بنكهة الاستغلال ويتلخص في المقايضة بالأحضان مقابل ما يشتهون. فليس من طبعي تمرير قبول لحس أواني كعكة العيد دون المقايضة بحضن طويل.
وهناك حضن معناه «أرجوك لا تخبري والدي عن حماقتنا». وهنا أساوم أيضاً للحصول على مبتغاي من أحضان سيما مع ابني الذي أقايض بحضن أمام زملائه ليمنحني شهادة أمومة علنية لا عرفية.
ولحصول أحدهم على شهادة تقدير حضن مطول بنكهة الفخر. وإذا ما اعتمرنا حرماً أو صلينا جمعاً، فعقب التسليم على الملائكة يمنةً ويسرةً فاني أطالبهم بتحياتي وغمراتي، فيستجيبون.
وهناك أحضان أيام الميلاد والمناسبات وهناك أحضان للرابح في أي لعبة وهناك غمرات يخصوني بها إذا ما أهديتهم عطراً جديداً للتربح من هديتي.
أما هم فيستمتعون بشدة «بالأحضان العمياء» التي يطلبونها مني أحياناً حينما يغمون أَعْيُني ويغمرُني كل واحدٍ منهم ليختبروا معرفتي بهم من رائحة جلودهم.
وقاموسى في الأحضان محيط، فهي منحة أمومية للأبناء بغض النظر عن أعمارهم أو أجناسهم، فلم ألحظ في نفسي يوماً تحسباً لاختلاف نوعياتهم، فلا أشترط ضعفهم أو احتياجهم لمنح حناني. فالقضية ليست احتياجا بقدر ما هي مشاعر رحمة ومحبة تطلق لها الأمهات العنان.. وأحمد الله أنها مجانية، فلما التباخل بها على صغارنا؟!
كاتبة مصرية
بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
15/04/2017
3935