+ A
A -
في الثاني من نوفمبر القادم ستمر مائة عام على وعد بلفور المشؤوم. وخلال قرن بأكمله لم يتوقف العرب عن الاستجداء الأخلاقي ولم تكف إسرائيل ومن أنشأها عن التبجح التاريخي.

طرف يقدم دفوعاً أخلاقية تنكأ الضمير وآخر لا يبالي طالما أن معه القوة. ومن أحدث الأمثلة على ذلك المحاولة التي يقوم بها «مركز حق العودة»، وهي منظمة مجتمع مدني تأسست في لندن عام 1996 على يد مجموعة من فلسطينيي المهجر.
ومنذ 2013 والمركز يمضي في حملة لجمع توقيعات من البريطانيين على عريضة تطالب حكومتهم بالاعتذار عن وعد بلفور أملاً في تصحيح الظلم التاريخي البشع الذي تعرض له الفلسطينيون. ولم يهدف المركز إلى جمع عشرة آلاف توقيع فقط حتى يتوجب على الحكومة البريطانية تقديم ردها على العريضة وإنما جمع مائة ألف توقيع حتى يتعين على البرلمان بدء نقاش حول الموضوع. وبعد حوالي أربع سنوات من انطلاق الحملة تمكن المركز من جمع حوالي ثلاثة عشر ألف توقيع فتعين على حكومة السيدة تيريزا ماي أن ترد. وجاء في ردها أنها لن تعتذر عن وعد بلفور بل تعتبره بياناً تاريخياً تفخر به كما تفتخر بتأسيس دولة إسرائيل. قالت في بيانها «إن تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي على أرض تربطه بها روابط تاريخية ودينية قوية كان هو التصرف الأخلاقي الصائب الذي كان يجب عمله». ولم يفوتها أن تبيع الكلام للعرب فقالت في بيانها أيضاً «الأهم الآن هو التطلع إلى المستقبل وإقامة الأمن والعدل لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين».
ولم يكن أمام القائمين على المركز غير الإعلان عن الاستمرار في الحملة لجمع المائة ألف صوت المطلوبة لمناقشة الموضوع في البرلمان. وانتقد بعض مسؤوليه رفض حكومة بريطانيا الاعتذار للفلسطينيين عن جرم وقع في حقهم فيما اعتذرت لغيرهم عن ممارسات استعمارية قديمة من بينها الاعتذار للأيرلنديين في 1997 عن المجاعة التي سببتها لهم في القرن التاسع عشر أو إقرارها في 2011 بمسؤولية السياسات الاستعمارية عن كثير من المشكلات التي تقع في كشمير.
أما في الحالة الفلسطينية فرأت حكومة بريطانيا أن كلمات بلفور الـ67 التي أضاعت فلسطين لا تستحق الاعتذار. ولا غرابة لا في موقف البريطانيين أو الإسرائيليين. ففلسطين لم تؤخذ من العرب إلا بالقوة ولن تسترد أو يجري حتى الاعتذار عن نهبها بالدفوع الأخلاقية وحدها. فارق القوة هو الذي يفسر رفض الاعتذار عن الوعد المشؤوم لأن القوة هي التي تحكم وليس الأخلاق. وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون له كتاب صدر في 2014 بعنوان «عامل تشرتشل: كيف صنع رجل واحد التاريخ» وصف فيه وعد بلفور بأنه «غامض وغير متماسك يجمع المأساة بالملهاة». لكنه انقلب مؤخراً على ما قاله فوصفه بأنه «عمل عظيم يعكس موجة كبرى في التاريخ». ولا عجب في ذلك إذا ما عرف المرء أن بريطانيا تسعى وهي تبحث عن حلول لمشكلة خروجها من الاتحاد الأوروبي إلى توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع إسرائيل.
ولم تكن إسرائيل بعيدة عن الاستخفاف بالدفوع الأخلاقية من حملة جمع التوقيعات. فقد خرجت نائبة المتحدث بلسان الخارجية الإسرائيلية «ميشال مايان» لتعلن أن إسرائيل ستحتفي بالذكرى المائة لصدور وعد بلفور وانتقدت الفلسطينيين «لأنهم ما زالوا معلقين بوثيقة عمرها مائة عام بدلاً من أن يهتموا بالبحث عن سبل لإعادة محادثات السلام مع إسرائيل». كما انتقدت إصرار الفلسطينيين على حمل بريطانيا على الاعتذار عن وعد بلفور واعتبرت ذلك تأكيداً على أنهم «يرفضون الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وحق الشعب اليهودي في أن تكون له دولة في إسرائيل».
في المقابل استمر التشبث الفلسطيني بالاستجداء الأخلاقي. فالسيد «خافير أبو عيد» أحد الناطقين بلسان منظمة التحرير الفلسطينية علق على ما قالته المتحدثة الإسرائيلية حول حملة الاعتذار قائلاً «إننا لم نقل بإلغاء حل الدولتين. إننا نعترف بحق إسرائيل في الوجود في حدود 1967 وهذا الاعتراف ما يزال قائماً. لكن الأمر سيكون مختلفاً إذا ما اعترفوا بما اقترفوه في حقنا».
ولا غرابة في أن يقابل الاستجداء الأخلاقي بالتبجح التاريخي ما دام أنه استجداء لا تقف من خلفه قوة ولو حتى قوة الحشد وجمع التوقيعات. فكيف بالله لا يجمع مركز العودة سوى 13000 توقيع منذ 2013 بينما تضم لندن وحدها أكثر من ستمائة ألف مسلم؟. صحيح أن المركز قرر أن يمضي في حملته ويجب أن يشجع في ذلك، لكن الدفوع الأخلاقية وحدها لن تغير شيئاً ما لم يدعمها فكر قوي وعمل أقوى. فبدون ذلك ستأتي كل الردود البريطانية شبيهة برد الحكومة الذي قال لن نعتذر بل وببلفور نفتخر.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
01/05/2017
2856