+ A
A -
حُزْن لا سَقْف له، دموع لا نوافذ تَسمح لها بالتسَلُّل إلى الخارج، وَوَرْد الطفولة لَطَّخَتْه يَدُ الزمن النَّجِسَة فأَفْسَدَتْ ترتيبَ أوراقه ورَوْنَقَه وهَرَّبَتْ رائحتَه الزكية بعيدا عن شواطئ الروح التي يَذوب شمعها شيئا فشيئا ويتآكَل جسدها تحت وطأة الحرمان..
صَدِّقْ يا صديقي أنني لا أَصِفُ لَكَ مشهدا من الخيال، صَدِّقْ، صَدِّقْ، فلَسْتُ أرسم لكَ أكثر من حدود خريطة الألَم في جسم طفل غادَرَتْهُ الطفولة قبل أن يَعرفَ لها معنى، وهَجرَتْه عصافير الفَرَح وقلبُها يَبكي، هَجرَتْه وتَركَتْ غابةَ أشجاره تشتعل ليَتحوَّل جسدُه إلى حطب..
فيلم قصير لا يَتجاوز زمنُ عَرْضِه عَشر دقائق، لكن في هذه الدقائق ما يَصدم ويَنتزع القلبَ من الصدر انتزاعا. صَدِّقْ أنه قلبُك ما سيَحدث له هذا بعد أن تَعرفَ ماذا وكيف ولماذا..؟!
الفيلم القصير ذاك حظي بجائزة أحسن فيلم، فتَهَافَتَ الجميع على طلب مشاهدتِه، وهنا تَبدأ القصةُ لِتَنْتهي بذُهول لا يَخفى عن العيون التي كانت قبل وقت قليل من العرض تتطلع بشوق إلى الفُرْجَة.
المشاهدون يَأخذون أماكنَهم في القاعة، العرضُ يَنطلق، والكاميرا تَرصد مساحةَ سَقف، إنه سَقفُ بَيْت. مَضَت الدقيقةُ الأولى، فالثانية، ثم الثالثة والرابعة.. المشاهِدون شرعوا يَتضايقون!
معقول!
معقول أن الفيلم يَدور حول سَقف!
تَمضي دقائق أخرى، ومعها يَمضي عدد من المشاهدين إلى حال سبيله متذمِّراً مِن الموقف السخيف على حَدّ استنتاجهم المتسَرِّع..
عندما يَبلغ العرضُ دقيقتَه الثامنة التي تُضْمِرُ خلفَها الكثير من الضجر الذي شَعر به المتفرجُ نتيجة قِلَّة صَبْره نَجِدُ أن عدسةَ الكاميرا تتحركُ تدريجيا إلى الأسفل، أسفل السقف، لِتَرصدَ صورةَ طفل مُعَلَّق بين الموت البطيء والحياة مع وقف التنفيذ، فنَفْهم من خلال المدة القصيرة جدا المتبقية من زمن العرض أنه مصاب بانقطاع الحبل الشوكي، وأنه بإعاقته تلك يَقضي حياته يوميا وهو لا يَرى سوى مَشْهَد واحد ليس بشيء غير السقف الذي مَلَّ المتفرِّجون من مشاهدته وعَبَّروا عن سخطهم إذ لم يتحمَّلوا رُؤيتَه أكثر من سِتّ دقائق..
لا تَنْسَ أن الطفلَ المسكين لا يَرى شيئا من الحياة كما تَعرفها أنتَ، فرَصيدُه مِن المشاهَدات التي تُسَجِّلها ذاكرة الحياة لا تَخرج عنده عن مساحةِ سَقف..
سَأُصَدِّقُ أن قلبَكَ يَبكي، لكن ليس أكثر مما يَبكي قلبُ الطفل ذاك، الطفل الْمُعَذَّب وهو بين مطرقة الحرمان وسندان الصمت.
نَافِذَةُ الرُّوح:
«بَعْض العُمْيان أكثر حَظّا مِنِّي ومِنكَ».
«شَيْء من العَمَى تَحتاج إلى أن تُجَرِّبَه رِفْقاً بعينيك من القُبْح الصَّادِم الذي يَأْكُلُكَ كالنار».
«كُلَّما تضاءَلت المسافةُ بينك ومَنْ تُحِبُّ اتَّسَعَت الفجوةُ بين قلبيكما».
«شَيْء من البُعْد فيه الشِّفاءُ».
«لَيْسَ كُلّ العَسَل يَبْعَثُ على اللَّذَّة التي تَبْقَى».
«الأيام مَدْرَسة تُبْرِحُ بِكَ ضَرْباً مُوجِعاً حتى تَحْفظَ الدرسَ عن ظهر قلب».
«تَأَكَّدْ أنكَ لَنْ تَجِدَ شيئا إذا كُنْتَ تَبْحَثُ في امرأة واحدة عن قَلْب الأُمّ وذَكاء الرَّجُل وحِكمة الفيلسوف ومَرَح الطِّفْلَة الْمُدَلَّلَة وسِحْر كليوباترا».

بقلم :د.سعاد درير
copy short url   نسخ
08/06/2017
2991