+ A
A -
« تَرَيَّثْتُ وأنا أقرأ «إضاءات..» الكاتب أحمد علي في الوطن لأقف عند صورة لا غرابة أن تَبلغ بي مَبْلَغ الإحساس باللذة الفنية قبل أن أنتقل إلى استكمال القراءة:..» لقد اتكأتْ قناتكم في تغطيتها لذلك «التصريح المزعوم» على دس السموم، دون أن يَكون في خليتكم الإعلامية نحلة واحدة تَصنع العسل، وتُقَدِّمه إلى جمهور المشاهدين!» (أحمد علي، «إضاءات» مع تركي «الدخيل»).
لستُ هنا في معرض الوقوف عند القضية التي يتمحور حولها مقال الكاتب أو الموقف الذي كان على البطل في نص المقال، البطل المدان «تركي الدخيل»، أن يَتَّخِذَهُ وما اتَّخَذَهُ.. ولكنني أَجِدُنِي مهتمةً بشيء آخر أدبي محض.
لقد شَدَّتْني في الشَّاهِد من المقال الصورةُ البليغة التي يُؤَثِّثُ فضاءَها البصري العسلُ والنحلةُ والخليةُ والجمهورُ الْمُتَلَقِّي لِطَبَق العسل، بغض النظر عما إذا كان العسل ذاك قد غُرِفَ من خابية العسل الأبيض أم من خابية العسل الأسود أم من سواهما..
فما الداعي إلى اهتمامي بالمقال؟!
أَذْكُرُ أن مقالا بعنوان «قلم.. من الزمن الجميل»، جاء بمثابة القراءة الموازية تقديما لكتاب الزميل هاشم كرار «ليست كل القصة»، فُوجِئْتُ بوجود كاتبه محمد المري على الصفحة الثقافية وقد شَدّ انتباهي بحديثه عن المقدمات.
لا يَختلف اثنان في أن خِطابَ المقدمة له أهمية قصوى تَجعلك تَضمّ صَوتَكَ إلى صوت المري تأكيدا لما لفتَ الانتباه إليه قائلا في العدد 7918 (الاثنين 8 مايو 2017):
«يبقى هناك فن متمرد.. متفرد من فنون اللعبة الصحفية، يحتاج مهارات خاصة.. مهارات تمزج بين الشد والجذب، لابد لصاحبها أن يتقن قدرات اللعب بين الكلمات، ومراوغة المفردات، تماما مثلما يراوغ ميسي الأسطورة دفاعات الخصوم، ويحقق الهدف بجملة ملعوبة بفنيات عالية، ويطرق المرمى من أضيق أبوابه! المقدمة هي الغلاف.. هي العنوان.. هي الإعلان.. هي بطاقة الدعوة لقراءة المنشور أو الانصراف والعبور.. لذلك قالوا: الكتاب يُقرأ من عنوانه.» (محمد المري، قلم.. من الزمن الجميل).
ما لا يَعرفه البعض من القراء والكُتّاب الجدد كذلك الذين يَفتقرون إلى الخِبرة هو أن العنوان لا يَقلّ شأنا عن المقدمة، ففي وسعك أن تَكتبَ عما شئتَ وكما شئتَ، لكنَّ طريقَ الأَلْف ميل إلى القارئ في رأيي يُمكنكَ أن تَختصرَه في ثلاث خطوات: أولها العنوان، ثانيها المقدمة، وثالثها ما تبقى من المكتوب موجزا.
لذلك إيمانا بضرورة العناية بالمقدمة لإعطائها الأهمية التي تكفي لتَجعلها تلفت الانتباه إلى الكتابة التي تَليها حاولتُ الوقوف عند بعض المقالات التي تَأسرك عناوينها على اعتبار أن العنوان هو أول ما يَتقدم المقالَ، خُذْ على سبيل المثال عنوان «السقوط» لمحمد المري، أو عنوان «إضاءات» مع تركي«الدخيل»لأحمد علي (ولاحِظوا كيف أن لَفْظَ «الدخيل» الذي ذُيِّلَ به العنوان بين مزدوجتين يَقبض على قلب مَعنى بعيد كل البُعد عن حدود ما يَحمله لقبُ «الدخيل» من توصيف بحكم أنه اسم شخص).
سأتجاوز فكرةَ العنوان المراوِغ والمولِّد للإيحاءات التي تحققَتْ على مستوى عتبتي العنوانين («السقوط» و«إضاءات») وجَعَلَتْهُما يُدغدغان بديهةَ القارئ تمهيدا للتجاوب وعقد الميثاق (ميثاق القراءة)، لأَفتحَ نافذةً على ما يُعرَف أدبيا بِاسْم السَّجْع.

فما يَكون السَّجْع؟!
لِنَقُلْ باختصار إنه تناغم موسيقي يتحقق عند نهايات الجمل.. هو توافق وانسجام في الكلمات الأخيرة من الجمل يُضفي على النثر رَوْنَقاً وبهاءً وجاذبية ويَجعله مُطْرِبا دون تكلف قد يُصَيِّر هذا البابَ من البلاغة مطرقةً تُؤَدِّي إلى تقويض بِنَاء الكلام حرصا على رغبة في الإمتاع تَنتهي بجَفاء ونُفور..
عودة إلى المقالين (لصاحبيهما علي والمري) اللذين يُسَلِّطان الضوءَ من وجهة نظري على السجع في أبرز تجلياته، أرى أن ننتقي منهما ما تَيَسَّر كالآتي:
«أن يدلي بدلوه فيما ورد فيها بأسلوب عليم، وطرح فهيم، ومنطوق سليم، بعيداً عن الموقف اللئيم والفكر السقيم» (أحمد علي).
«وسائل إعلام تحولَتْ إلى التهريج وإثارة الِفتن في الخليج» (محمد المري).
«انبرى كل ذئب منها في الصراخ والعويل.. بدلاً من التحليل الموضوعي الذي يقوم على الدليل» (أحمد علي).
«حقد لقطر وشعبها.. أعمى بصيرة المتربصين فجاءت العملية ساذجة إلى أبعد درجة» (محمد المري).
«المؤســـــف أنكــــم ســــعيتم خلال تغطيتكم لذلك «التصريح المدسوس» إلى تفريخ «بويضات السوس» (أحمد علي).
«هذه المعلومة نوردها لنضع النقاط على الحروف، وحتى قبل أن نفتح باب الأسئلة التي يكفي أي واحد منها لنسف المؤامرة، ولكن نضع أحدها من باب «الطقطقة» على هذه الجوقة المرتزقة» (محمد المري).
«التصريح الكاذب تتقاطع محاوره مع بعضها البعض، وكل محور فيه يتناقض مع الآخر، بشكل يشبه محاولتكم الأخطر إشعال ثقاب كبريت في برميل من الزيت» (أحمد علي).
هذه عينات من العبارات التي اتَّخَذَ منها السجعُ مُسْتَقَرّا في خطاب علي والمري. وما عليكَ إلا أن تُعاينَ أواخر الكلمات التي تنتهي بها الجمل:
- [عليم.. فهيم.. سليم.. لئيم.. سقيم].
- [تهريج.. خليج].
- [العويل.. الدليل].
- [ساذَجة.. دَرَجة].
- [مدسوس.. السوس].
- [الطقطقة.. مرتزقة].
- [كبريت.. الزيت].
لا شك في أنك ستُسَجِّل أن هناك عددا من الأصوات يتردد في صورة أجزاء من كلمات. هذه الكلمات التي تُحقق جَرْساً موسيقيا طَيِّبٌ نَغَمُه في أواخر الجمل تُسَمَّى الفواصل.
والآن لاَحِظ الفواصلَ في نص الشاهد الأول:
«عليم، فهيم، سليم، لئيم..» هي فواصل تشترك في كونها تنتهي بحرفين هما الياء الساكنة والميم اللذين يحققان انسجاما أو تَوافُقا ليس سوى الوجه الآخَر لمعنى السجع الذي يُقَدِّم نفسَه بوصفه من المحسِّنات..
ولْنَنْتَبِهْ أيضا إلى الفواصل اللاحقة على التوالي وقد تَكَرَّرَتْ فيها الحروف التالية تباعا: «الياء الساكنة والجيم (تهريج.. خليج)»، «الياء الساكنة واللام (العويل.. الدليل)»، الجيم المفتوحة والتاء المربوطة (ساذَجَة.. دَرَجَة)»، السين المضمومة والواو والسين (مدسوس.. السوس)»، «القاف المفتوحة والتاء المربوطة (الطقطقة.. مرتزقة)»، «الياء الساكنة والتاء المبسوطة (كبريت.. الزيت)»..
حُضور السجع عندما يكون في محلّه يُؤكد قوةَ التعبير الموازية لقوة المعنى فضلا عن مَوْسَقَة الكلام التي تجعل القارئ يَنتشي إعجابا بالمكتوب من خلال جرعاتٍ تَرْوِي لا تَقْتُلُ العبارةَ.
البعض يَجتهد ليَجعلَ سجعه مَواطن رِقَّة وكلاما عَذْبا مُرتَّباً دون نية أو قصدية لصخب الإثارة بعيدا عن حفظِ ماءِ وجهِ العبارة، والبعض الآخَر نَجِدُه يَبحث عن السجع بشتى الطُّرُق القسرية التي تَجعل وجودَه بالقوة يكسر القالبَ التعبيري، فيُقَلِّل من جودة التركيب ويَجعل الكاتبَ يَسقط في ركاكة التعبير بحثا عن تناسُق وتشابُه لا يُعْرَفُ داعٍ لإقحامهما في غير سياقهما.
لاحَظْتُ أكثر من مرة تَفَنُّنَ علي والمري في توظيف السجع، مما يَضمن لمقالاتهما الشيءَ الكثير من التأثير ويَجعل أساليبهما الإقناعية مَمْهُورَةً بإغراء وجاذبية من الجميل ألاَّ تَسقطَ عن انتباه القارئ وألاَّ تَغيبَ عن سيرورة الكتابة عند كل صاحِبِ قَلَم شريطة أن يَجِدَ لها الكاتب المكانَ المناسب.
أتساءل في نهاية المطاف تَجَاوُباً مع المقالين الأخيرين الْمُشْبَعَيْن بالسجع لكاتبيهما علي والمري (عن الْمَشْهَد المبتور في قرار المقاطعة ومبررات القطيعة) وتجاوبا مع ما وازاهما من حيث الموضوع في غير المصدر المذكور: بربنا هل يعقل أن الدُّخَلاء (أميركا وإيران) هم مَن سيتوسطون بين الأشقاء أو يحلّون الأزمةَ أو يُخَفِّفُون من نار بَاتَتْ جذوةً بلا دخان تجعل واقعَ أبناء الأمة الواحدة يَغلي كل الغليان..؟! أيّ مستقبل دون مَلامِح يَنتظر العالَمَ العربي بغضبه الجامِح في ظِلّ مَساعي التَّفْرِقَة والتَّشَرْذُم التي لم يَشهد لها العالَم العربي نظيرا والتي لن تَزيدَه إلا ضعفا ووَهنا لِيَتَخَلَّصَ منه دون عناء مَن يَطبخ له السّمَّ في خفاء؟! وهل من الحكمة أن ُيَتمَّ بَتْر أصبع مِن اليَد الواحدة والعيون شاهدة (بل هل تَقوى اليَدُ الواحدة على بتر أصبع من الأصابع)، والقوة في اتحاد الأصابع لاسترجاع المجد العربي الضائع، بدل أن تَتمَّ تسوية الخلافات على طاولة النقاش في ظِلّ الحوار البَنّاء والرامي إلى المضي قدما تحقيقا للأهداف والْمَرامي؟!
لا تَقُلْ إن سياقَ التساؤل الأخير بعيد عن الموضوع الذي بَنَيْتُ عليه مقالي، فلا يَختلف اثنان في أنه لا يَخْلُو من أمثلة تَعَمَّدْتُ أن أَضْرِبَها لتقريب فكرة السجع إلى مَن يهمّه الأمرُ انطلاقا من صُوَر ناطقة به (السجع) مما يُكْسِبُها إيقاعا خاصا وجَمالا لا تَغفل عنه الذائقةُ الفنية على حَدّ اعتقادي.

بقلم : د.سعاد درير
copy short url   نسخ
10/06/2017
2635