+ A
A -

أكثر الناس في المناطق الشبيهة بمنطقتنا في حيرة من أمرهم مع السياسة. فحينما يرون أكثر من يشارك فيها ليصلحها وهو يلقى مختلف صور العقاب إلا ويبدؤون في الحذر منها بل والابتعاد عنها وإعادة التفكير في موضوع السياسية برمته. لكنهم من جانب آخر يعرفون أن فساد الحياة السياسية لم يكن ليحدث ويتفاقم إلا بسبب نكوص الناس وابتعادهم عنها وتهميش دورهم فيها.
ومع أن صوت السياسة يدوي باستمرار في جنبات منطقتنا إلا أن أكثر الناس مازال يفضل أن يراقبها لا أن يشارك فيها. أن ينضم إلى «حزب الكنبة» و«تحالف المشاهدين» وهما الكيانان السياسيان الأكبر والأوسع في المنطقة. أن يتحول إلى إنسان هامشي لأن البقاء بالنسبة له على الهامش أكثر أمناً من الدخول في قلب الدائرة.
والإنسان الهامشي ليس تافهاً أو ساذجاً أو جاهلاً أو غافلاً عما يجري، وإنما هو عاقل أريب اختار أن يراقب عن بعد ليعرف لا لينشط. هو ليس سلبيا بالمطلق وإنما يكتفي بأن يلاحظ ويتابع. وإذا تكلم في السياسة جاء كلامه ساكتاً. يرتاح وهو يحاور نفسه أو على أقصى تقدير وهو يتكلم ضمن دائرته الاجتماعية القريبة. لا يفكر مطلقاً في دخول عالم السياسة من أي باب. لا يذهب إلى مراكز الاقتراع ولا يقف في طوابير الانتخابات. ليس له انتماء حزبي أو نشاط نقابي. لا يسير في مظاهرات أو يخرج في احتجاجات أو يحضر أية فعاليات سياسية.
وقد يبدو أن الإنسان الهامشي لا يهتم إلا بذاته وحياته الخاصة. وهذا غير صحيح. فهو ليس متبلد الحس أو مبتذل التصرفات أو مستلب الوعي. الإنسان الهامشي يحسب خسائره ومكاسبه. وعادةً ما يقدرها بشكل سليم. فهو يعرف آلام السياسة ويعي خطورتها. وهو لذلك عندما يبتعد عنها ويضع نفسه على هامشها إنما يفعل ذلك لأنه على قناعة بأن تكلفة الخوض فيها تفوق أي عائد متوقع منها. الإنسان الهامشي في السياسة هو الموازي في الاقتصاد للمستهلك الرشيد، الذي يُعظّم أرباحه ويقلل خسائره.
ولا يُعدم من ينتقدون الإنسان العربي الهامشي حجة. يتهمونه بالسلبية وبأن صمته هو الذي شجع الاستبداد والفساد وأنه لو كان قد شارك لربما ما كانت الأوضاع قد ساءت وانحرفت. يرمونه بأنه يعلم ولا يعمل. يتابع ولا يتحرك. يترك المجال العام للأشرار بدلاً من أن يملأه مع كل الأخيار الذين آثروا الصمت. يتهمونه بأنه لا يمد يده لمساعدة من يحاولون بناء ستارة دفاعية تحمي المجتمع من جبروت آلة السياسة. وأنه يحطم بتهميشه لذاته حجراً في جدار الحماية الذي تحاول القوى المدنية أن تبنيه بينها وبين السلطة.
لكن الإنسان الهامشي لا يغضب من مثل هذه الانتقادات أو يندفع محرجاً لينهي تهميشه السياسي الذاتي. فهو يدرك خصائص البيئة السياسية العربية وما تنطوي عليه من أخطار. فهو حذر جداً وواقعي جداً. رأى مؤخراً كل الثورات العربية وهي تفشل. ويعرف كذلك أن كل الثورات التي سبقتها انتهت أيضاً بالفشل. ولذلك فهو لا يتشجع لينشط سياسياً. وهو لا يفعل ذلك لأنه يضع سلامته فقط في الحسبان وإنما لأنه يهتم أيضاً بسلامة أوطانه. فالنشاط السياسي الزائد عند العرب غالباً ما تصاحبه فوضى تهدد بقاء الأوطان. ولذلك يرى الإنسان الهامشي من الأفضل له ولوطنه أن يختار الأمن على حساب الحرية وأن يبتعد عن مزاولة أي شكل من أشكال السياسة لصالح الاستقرار حتى ولو كان مفروضاً بقوة السيف.
إن الإنسان الهامشي في العالم العربي يدرك أن التوازن بين الأمن والحرية لم يكن في يوم ممكناً. ومع أن هذا التوازن تحقق في الغرب إلا أنه لم يتحقق يوماً في الشرق. في الغرب اختفى الإنسان الهامشي بعد أن دربت الاستنارة الإنسان على أنه لا يملك في ظل الديمقراطية إلا خياراً واحداً هو أن يقول رأيه وأن يكف عن الاستحواذ باسم حريته الشخصية على كل المجال العام. أما في الشرق فما أن يعطى الناس الحرية إلا ويسيئون استعمالها معرضين أنفسهم وأوطانهم للخطر. ولكي يبتعد الإنسان اللبيب عن كل ما يترتب على اختلال التوازن بين الأمن والحرية لم يكن أمامه إلا أن يصبح هامشياً. أن يبقى مراقباً وليس مشاركاً. فهو يخشى لو انخرط في السياسة أن يجرفه تيارها المضطرب إلى مخاطر لا يطيقها.
لكنه مع ذلك لا ينعزل. فهو ليس سلبياً وإنما نابهاً حريصاً. يخشى لو انعزل أن يجهل ما يجري فتفاجئه السياسة بما لا يحب. ولهذا فهو يكتفي بالمتابعة. وفي بيئة لا توفر الأمن وتكره الحرية ربما يكون الإنسان الهامشي هو الخيار المتبقي للحفاظ على أكبر قدر ممكن للإنسان من الأمن ومن الحرية معاً.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
03/07/2017
3408