+ A
A -
من غير الممكن إنكار العلاقة التاريخية بين الشأنين الديني والسياسي في صورهما المتعددة وباختلاف المذاهب والأديان والعقائد وتنوع المجتمعات والدول، وربما كانت المنطقة العربية البيئة أكثر خصوبة لحضور السلطان الديني في تواشجه مع السلطان السياسي نظرا لعوامل تاريخية تعود لنمط تشكل الأمة العربية في أحضان الهوية الدينية إلى الحد الذي دفع فيلسوفا اجتماعيا مثل ابن خلدون إلى القول «إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة».
وهو موقف له ما يؤيده من حيث الشواهد التاريخية أو من حيث الوقائع السياسية الراهنة حيث لعب الخطاب الديني دورا أساسيا في بناء الأنظمة السياسية حتى أكثرها علمنة وعداء لما هو ديني. وفي ظل هذا التداخل بين الديني والسياسي تظهر إشكالية تعامل الخطاب الديني مع قضايا السياسة.
وهو ما أفرز في الساحة نمطين من علماء الدين أو المشايخ الذين يضعون أنفسهم في مقام الناطق باسم الشرع وممن يعتبرون مواقفهم توقيعا عن رب العالمين. فكيف يمكن مقاربة الخطاب الديني في تعامله مع الشأن العام؟ وأي دور لمشايخ الدين في ظل الحراك السياسي المتصاعد الذي يجتاح المنطقة العربية الإسلامية؟
لقد كان الإسلام- ولازال- في جوهره دين التحرر والانعتاق من كافة أشكال العبودية والعدوان، وهذا الخط مثّله على الدوام ما يمكن تسميتهم بشيوخ المقاومة أولئك الذين أخذوا على عاتقهم التصدي لكافة أشكال الظلم والانتهاك وكل الوضعيات القصوى التي لا يكون فيها الإنسان إنسانا. فذهنية المقاومة تنبني أساسا على منطق الرفض لكل أشكال التوظيف أو التبرير لصور الاستبداد والاستعباد ومن هذا المنطلق تعرض هؤلاء لمحاولات الإقصاء والتغييب وصولا إلى التصفية والإقصاء.
في المقابل تظهر في الساحة نماذج لما يمكن تسميتهم بشيوخ السلطة بوصفهم النقيض الموضوعي لشيوخ المقاومة ويتميز هؤلاء بالصمت على كل التجاوزات والمظالم والانتهاكات وصولا إلى حد تبريرها وإيجاد سند ديني لمقترفيها من المستبدين، وغالبا ما تكون الاستفادة متبادلة بين شيوخ السلطان وبين الحاكم المستبد وهو ما أفضى تدريجيا إلى اندراج شيوخ السلطة ضمن الهيكل العام الفاسد وهو أمر يمنعهم من قول الحق أو التعبير عن رفض الانتهاكات.
وهو ما أشار إليه الإمام الغزالي في كتابه «الإحياء» بقوله «ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال».
وفي المقابل تستنفد مؤسسات الحكم الفاسدة هؤلاء الشيوخ وتستعملهم لتبرير استبدادها ومظالمها وتدميرها لمقومات الوطن ولحقوق الأخوّة والجوار، فما يقوم به شيوخ الدين المزيّفون من تغييب لأذهان عامة الشعب وتهيئة عقولهم لقبول استعلاء الحاكم وما يضفيه على نفسه من سمات العظمة والكبرياء «هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة دعوى بعض المستبدِّين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرَّعية».
حتَّى يُقال: «إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَا ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله» كما يقول الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد». فشيوخ السلطة لديهم استعداد لتبرير العدوان إلى الحد الذي جعل بعضهم يعتبر حصار بلد شقيق عملا محمودا يستحق الثناء، ووصل الحال بالبعض الآخر إلى درجة الافتراء واختلاق الأكاذيب لتصوير الخصوم باعتبارهم ورثة الخوارج وأعداء الدين.
فجوهر الاستبداد واحد ومنطق التبرير الديني واحد فبنية الخطاب لدى شيوخ السلطة تتأسس في مجملها على حجج تنطلق من تبرير الظلم بمنطق قدري أو بلغة المصلحة دون اعتبار لأحكام الشرع بما تتضمنه من دعوة إلى العدل وإصلاح ذات البين، ليتحول الدين في ظل هذه الحالة إلى مجرد خطاب تبريري يتناقض مع جوهره الصحيح.

بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
04/07/2017
3207