+ A
A -
يمر الاقتصاد العالمي بفترات من الركود والكساد يتبعها بفترات من النمو والانتعاش فيما يسمى «بالدورات أو التقلبات الاقتصادية».. هذه التقلبات تحدث عادة في اقتصادات السوق الضخمة (مثل الولايات المتحدة واقتصادات غرب أوروبا)، ولكنها سرعان ما تنتقل منها إلى بقية اقتصادات العالم الأخرى سواء الفقيرة منها أو النامية أو الساعية نحو النمو.
وهناك نظريات كثيرة تفسر لماذا تحدث هذه التقلبات وما أسبابها؟ ولعل أشهرها نظرية «موجات الاختراعات والتجديد» أو «التحطيم الخلاق» للاقتصادي الألماني «جوزيف شومبيتر» 1883-1950.. وبحسب هذه النظرية فإن ما يسبب النمو والانتعاش في الأسواق هو حدوث اختراع عظيم ومؤثر (كاختراع السيارة في عشرينيات القرن الماضي) وما أستتبعه هذا الاختراع من اختراعات أخرى مرافقة ومكملة كإنشاء الطرق ومحطات الوقود وورش بيع السيارات وإصلاحها وبعدها اختراعات سيارات النقل والثلاجات المتحركة وما صاحب ذلك من نقل للبضائع والأفراد وبالتبعية إنشاء المدن وتعمير الأراضي غير المأهولة بالسكان.. إلخ. ويقول «شومبيتر» إن الكساد يبدأ في التكون حينما يحدث تشبع من هذا الاختراع.. أي في حالة السيارة، حينما يشترى كل قادر على الشراء السلعة، فيبدأ الطلب عليها في الهبوط وبالتالي يقل الإنتاج وتبدأ المصانع في الاستغناء عن العمال ويحدث الكساد في الأسواق انتظاراً لموجة جديدة من الاختراعات التي تزيد الطلب وتزيد الإنتاج بنفس الصورة السابقة.. ولعل الموجة الأخيرة من الاختراعات التي مازلنا نعيشها هي الخاصة بالكمبيوتر ثم الإنترنت ثم وسائل الاتصالات وأخيراً أدوات وسائل التواصل الاجتماعي.
ولكن الملحوظ أن الاقتصاد العالمي يمر بواحدة من أطول فترات الركود المسجلة في العصر الحديث والتي تجلت في 2008 مع قمة الأزمة الاقتصادية العالمية.. ولعل المدقق في البيانات يجد أن 2008 لم تكن البداية، حيث إنه في جميع البلدان المتوسطة الدخل والمرتفعة الدخل، ظلت الأجور (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) تنخفض باطراد منذ ما يقرب من 40 عاماً.. واليوم تبدو الحالة قاتمة بالتأكيد.. فلقد ساهم الركود الاقتصادي واتساع عدم المساواة في الدخول والثروات إلى زيادة كراهية الأجانب وظهور الشعبوية والقومية والانقسام الداخلي في البلدان المتقدمة، وهو ما تجلى في تصويت المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب.. بالإضافة إلى أن أجزاء كبيرة من العالم النامي، لا سيما في شرقنا الأوسط وشمال إفريقيا أيضاً، حيث عانى كثير من دول المنطقة من ظروف اقتصادية صعبة.. ومن ثم انتشرت الصراعات والحروب الداخلية في المنطقة إلى درجة أن عدداً لا بأس به من الدول أصبح في عداد ما يسمى بالدول الفاشلة.
وهكذا يمكن ملاحظة أنه مع كل حالة من حالات الركود الاقتصادي (العالمي) والممتد خارج حدود الدولة يكون هناك ضحايا للدورة الاقتصادية.. ولعل تفتيت أوروبا الشرقية وسقوط الاتحاد السوفياتي حدث بعد موجة كساد عالمية في السبعينيات من القرن الماضي كان مردها إلى ارتفاع أسعار البترول بشكل جنوني آنذاك، حيث ارتفع سعر البرميل الخام من 3 دولارات إلى سبعة وعشرين (أي تسعة أضعاف تقريباً) ودخل الاقتصاد العالمي لأول مرة فيما تم تعريفه بعد ذلك «بالركود التضخمي» وهو ارتفاع معدلات البطالة مع ارتفاعات الأسعار في نفس الوقت.. وهو ما ندعى أن بوادره أصبحت مؤكدة في منطقتنا الآن، حيث تشهد مصر حالة غير مسبوقة من معدلات بطالة بين الشباب تزيد على الخمسة والعشرين في المائة مع معدلات تضخم تربو على العشرين بالمائة.. وهكذا إذا استمرت الأوضاع في منطقتنا على ما هي عليه ستتحول معظم دولنا لمثل هذا الركود التضخمي بما فيها الدول التي كنا نعتقد أنها محصنة اقتصادياً مثل دول مجلس التعاون الخليجي.
هذا لا يعنى أن المستقبل حالك فأولاً: موجات الركود العالمي لا تتأثر بها كل الدول بنفس المقدار، بل إن هناك دولاً تحول هذه الموجات أو الدورات لصالحها، كما حدث خلال الأربعين عاماً الماضية مع الصين والهند.. ثانياً: إن النواحي الاقتصادية تؤثر وتتأثر بالظروف السياسية بشكل كبير. وهكذا إذا تم إيجاد حلول للمشاكل السياسية الموجودة في المنطقة فلابد أن ينعكس ذلك على الأداء الاقتصادي ولا بد أن تتحسن الظروف الاقتصادية بشكل كبير.

بقلم : أ.د. حسن يوسف علي
copy short url   نسخ
05/07/2017
4782