+ A
A -
ها أنتَ تَشتعل، تَشتعل رغبةً، تَشتعل رغباتُك تباعا في إشباع كُلّ ذَرَّة فيكَ، تَحرق وتَحترق، ثم عودة إلى نقطة الصفر كأن شيئا لم يَكُنْ.
حال حياةِ الإنسان من حال الشمعة. الحياة شمعة.. اشتعال، فتَوَهُّج، ثم خفوت. إنها الحياة لا بعينيك إنما بعيني أندرييف.
هكذا يَرسم لنا ليونيد أندرييف في تجربته الإبداعية المسرحية «حياة إنسان» (ترجمة: يوسف حلاق) حُدودَ حياة الإنسان من الأَلِف إلى الياء، من لحظة الولادة إلى لحظة الموت..
لا تَستغرِبْ يا صديقي، فكل ما حولك مَآلُه التلاشي بعد رحلة بين نقطتين: نقطة انطلاق تَقُودُ إلى نقطة مَيِّتَة..
ولا يهمّك بعد هذا أن تَعرفَ شيئا عن طبيعة المسافة الفاصلة، فهي في كل الأحوال لن تَخرجَ عن دائرة (تَبْتَلِعك) أو نصف الدائرة (التي لا تَستدير إلا لغيركَ)، أو مُثَلَّث (لا يختلف تأثيره فيكَ كثيرا عن برمودا).. ونادرا، نادرا ما يُلْقِي بك الحَظُّ في حضنِ سريرِ خَطٍّ مستقيم.
بين الموت والحياة تَأكَّدْ أن المسافةَ صفر. هكذا يَرسم لكَ أندرييف (المحطَّم المعنى وجوداً) فلسفةَ الكون والكينونة لا لتراهما بعينيكَ إنما لتراهما تحت مجهر الحِكمة (حِكمته).
شخصيا لا أعترف بغير الأبيض والأسود، لكنْ لِننظرْ كيف يُقْنِعُنا أندرييف باللون الذي يَليق أكثر فأكثر بحياة إنسان لا يختلف عنك أو عني. وانظروا كيف يُقدم لنا أندرييف فُرْجَتَه من باب التمهيد الذي يمرر رسالة مضغوطة:
«شخص في زي رمادي يُدعى «هو» يتحدث عن حياة إنسان. المكان يشبه غرفة مربعة كبيرة خالية تماما، ولا باب لها ولا نوافذ، كل شيء فيها رمادي، دخاني أحادي اللون، جدران رمادية وسقف رمادي وأرض رمادية. من منبع غير مرئي يَسقط ضوء ضعيف متساو، رمادي هو الآخَر ورتيب.. يبتعد الشخص بالزي الرمادي عن الجدار.. عليه رداء فضفاض طويل رمادي عديم الشكل يرسم بغموض خطوط جسمه الضخم، وعلى رأسه غطاء رمادي.. أما ما يرى منه فعظام الوجنتين والأنف وذقن نافرة ضخمة وغليظة كأنها منحوتة من حجر رمادي..» (ليونيد أندرييف، حياة إنسان).
اللون الرمادي نفسه تحدث عنه صمويل بيكيت على امتداد كتابته الدراماتورجية في مسرحية «نهاية اللعبة» (وَقَفْنَا عندها في عدد سابق من باب «بين حرفين» تحت عنوان «الدرجة الصفر للحياة!»).
فما القاسم المشترك بين خَطّ تَوَجُّه صمويل ومَنْطِق تصوير أندرييف للمَشهَد؟!
إنه الواقع الضبابي العصي على التحديد. إنها أشياء الحياة التي أنهكَتْها حُمَّى الفوضى..
فهل اقترَبْنا من سِرّ هذه الرؤية الرمادية للعالم؟!
وهل لهذا السبب جاءت مسرحية أندرييف مخالفة للمعتاد من حيث التقسيم، إذ ارتأى أن يَنتقي تسميةَ اللوحة بَدَل الْمَشْهَد؟!:
-اللوحة الأولى: ولادة «إنسان» وآلام أُمّ.
-اللوحة الثانية: الحُبّ والفقر.
-اللوحة الثالثة: حفل راقص عند الإنسان.
-اللوحة الرابعة: شقاء «الإنسان».
-اللوحة الخامسة: موت «الإنسان».
هل يُريد أندرييف أن يَقول لنا إنه نَجَحَ على الأقل في تحديد غير المحدَّد لَمَّا فَكَّرَ في تقييد اللحظة خلف قضبان إطار اللوحة؟!
قد نتفق مع أندرييف، وقد نختلف يقينا، لكن ما لا يختلف فيه اثنان هو أن أندرييف وضع يَدَه على فكرة اللوحات المسرحية مُعْجَباً كل الإعجاب بلوحة تشكيلية لفنان تشكيلي ألماني يدعى البرشت دورير، بل لِنَقُلْ إن هذه اللوحة شَكَّلَتْ مصدرَ إلهام بالنسبة لـلمسرحي أندرييف، فكان إبداعُه المسرحي «حياة إنسان» بمثابة النص الموازي للنص الأصلي المكتوب بالألوان (اللوحة التشكيلية).
هل يَقِف التناص عند حدود اللوحة؟!
الجواب نَسْتَشِفُّه من موضوع المسرحية (حياة إنسان) التي لا تَخرج عن إعادة تدوير لما عَبَّر عنه الْمُلْهِم الألماني البرشت رسما وتخطيطا.
وهذا معناه أن صاحبنا أندرييف الشاعر بعمق معاني اللوحة التشكيلية رَتَّبَ لتحويل المشاعر من جدارية إلى قلب أحزان (وأفراح) صغيرة احتواها الورق حواريا قبل أن تُحْييها أنفاس الخشبة.
إنها حياة الإنسان، اختلفَت القوالب الْمُعَبَّر بها عنها، لكن الفكرةَ واحدة. وهنا لا شك في أنك ستتساءل: أيّ إبداع تشكيلي هذا الذي سيُفَصِّل حياةَ إنسان على مقاس لوحة؟!
المؤكد أن قالبَ الرسم مهما اسْتَوْعَبَ من رؤوس فرشاة فإن العقلَ يَظَلُّ حائرا قُبالتَه، قُبَالَةَ ما يُمكن أن تَختزنه اللوحةُ التشكيلية من تفاصيل في مقابل ضَيْق المساحة وغياب مواقع اللاتحديد التي تُشَكِّلُ دعامة وحجر أساس في نظرية التلقي..
لم أطرح السؤال عبثا، لماذا؟! لأن أندرييف قرأ في لوحة الرسام البرشت أكثر من هذا. والدليل دائما هو الغِنى الفني أو لِنَقُلْ ثراء المضمون الذي تَرْجَمَه (أندرييف) بطريقته في صورة مَشاهِد سَارَعَ إلى حَبْس كل منها في إطار حتى لا تَنْفَلِتَ.
يُمكننا التقدم أكثر في التحليل والقول إن أندرييف بفطنته وذكائه الفني حَرص على تجميد المشهد في إطار لوحة حتى لا يتلاشى كما تتلاشى كل اللحظات التي تمضي دون أن نَشبع منها بِقَدْر ما نَشبع من الألم الذي هو الوجه الآخَر لِتَبعات اللذة المفقودة في الحياة.
محمول لوحات «حياة إنسان» المسرحية تُوَثِّق لرحلة الإنسان المصيرية في صراعه مع القَدَر، صراع تَرويه لنا شخصية مجردة (هو) فاقدة للهوية، تظل مرافقة للإنسان في أطوار حياته وكأنها ظِلّه، كأنها الرقيب، وكأنها قَلَم القَدَر الذي يَكتبُ نهايةَ الإنسان..
وهكذا نَفهم أن الحرقة والتشظي عنوان معركة الإنسان في صراعه الوجودي.. هي أجواء تَنقل حالةً من الألم الإنساني الجاثم على الأنفاس.. أجواء كهذه ليست بغريبة عن الأجواء التي «مَثَّلَتْ تربة خصبة لشحذ حساسية أندرييف الذي كان مولعا على وجه الخصوص بقراءة نيكولاي غوغل (1809-1852/ مات مجنونا)، وفيودر دستويفسكي (1821-1881/ كان مصابا بالصرع)، وغليب أوسبينسكي (1843-1902/ مات مجنونا)، وفسيفولود غارشن (1855-1888/ انتحر في الثالثة والثلاثين من عمره» (ليونيد أندرييف، كتاب الجنون).
أَلَيْسَ هو الوجه البَشِع للحياة الذي رَفَضَه هؤلاء مُوازاةً مع سُقوط الأقنعة؟!
أَلَيْسَ هو تأثير شعورهم بالصدمة، مع كل تجربة حياة صغيرة، ذاك الذي دَفَعَهُم إلى طيّ صفحتها (الحياة) دون رجعة مع رِضَاهُم بالاختيار الْمُرّ الذي هو الموت السعيد أو الرحيم لا فرق في حالة تَعَذُّر الإعفاء من الحياة (الجنون)؟!
أَلَيْسَتْ هي الصراعات التي أَفْضَتْ إلى مَحْو قيمة الإنسان لَمَّا أَرْسَتْ مفهومَ الوحدة التي حَكَمَتْ بها عليه وجَرَّدَتْه من كل شيء في الحياة إلا المعاناة؟!
مع تَبَدُّد اشتعال جمرة الحياة مجددا يَعودُ الإنسانُ إلى عالم الظلام الذي جاء منه هو الذي خَرَجَ من رحم الظلمة لِيَنتهي إلى قبر الظلمة. هذا هو الإنسان، وهذه هي حياتُه «هو الآتي من الليل يَعود إلى الليل، ويَتوارى دون أثر في لا نهائية الزمن» (حياة إنسان).

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
08/07/2017
2797