+ A
A -
لماذا نستغرق وقتا لاكتشاف بلادٍ لم نزرها من قبل؟ لماذا نتهافت على مطعم جديد يقدم أطباقا لم نجربها؟ لماذا احتفلت امرأة بعيد ميلادها التسعين بالقفز من مسافة شاهقة؟ لماذا يبتكر المهندسون المعماريون مباني بتصاميم جديدة، فنادق تحت الماء، أو مطاعم عائمة في البحر مثلاً؟ هل نخاف من أن يتحول كل شيء من حولنا مشهداً عادياً؟

يتحرق الإنسان لأن يضفي دهشة ما لحياته، وحين تتسلل الرتابة ليومه، يصاب بالخمول والإحباط.

القادر على الدهشة هو الحيّ، أما الرتيبون والراضون بالانسياق فلم يغيروا شيئًا في العالم. لكن ماذا لو تحولت الدهشة لمشروع حياة؟ أعني صارت هاجسا، شيئًا يشبه الإدمان، بحاجة دائمة لرفع مستواها لبلوغ النشوة. نعم، هناك من يتعاطى الإدهاش لدرجة الهوس. ولأنه كذلك أصبح الهدف المباشر لمستهدفي المستهلكين في العالم، من جيوب هؤلاء أصبح الكثير من صانعي الدهشة الخارجية أثرياء ومشاهير. الباحث عن الدهشة، وفي فترات قصيرة جدا، قد يغير شرشف سريره، لون شعره، أثاث بيته، عطوره، حذاءه، وأحيانا أيضًا؛ وبكل الأسف أقولها: زوجاته! كل ذاك ركضًا خلف دهشة جديدة، يغيرّ كل شيء حتى تترهل شهيته، ويصبح يومًا ما متخما وميتا!. لأنه في الحقيقة يهرب من شيء عميق، يهرب من عجزه التام في أن يشعر بما حوله، بحياته العادية، ولأكون أكثر صدقًا: يهرب من مواجهة نفسه، لا يدرك هؤلاء أن الدهشة الحقيقية تكمن في الأشياء اليومية، في علبة ألوان طفلك المبعثرة، في خصلة شعر زوجتك الهاربة من عقدة شعرها، في سجادة والدتك الممددة قبل ذهابها للوضوء، في ساعة والدك على الطاولة الجانبية، في جارتك التي تطرق الباب لتسأل عن ابنها، في أول راتب تستلمه من وظيفتك الأولى.. هذه الحياة العادية التي تحدث في بيتك، مثلما تحدث في بيت جارك، أو في بيت ما في أقصى بلاد لا تعرفها.

الدهشة التي يسميها شوبنهاور: «الدهشة الفلسفية».. يقول: «لا يوجد كائن يندهش من وجوده الخاص باستثناء الإنسان، فالوجود شيء طبيعي لدى جميع الكائنات إلى درجة أنه لا يثير انتباهها… إن امتلاك الروح الفلسفية يعني القدرة على الدهشة أمام الوقائع الاعتيادية وأشياء الحياة اليومية … وكلما انحدرت مرتبة الإنسان من حيث العقل، كلما قلت غرابة الوجود بالنسبة إليه … أما الدهشة الفلسفية فهي على العكس من ذلك … تفترض في الفرد درجة أعلى من العقل».

هؤلاء الذين يندهشون كالأطفال، ويشعرون بالأشياء الصغيرة التي لا يشعر بها غيرهم، هم الذي لا يمكن أن تستغلهم دور الأزياء والمسوقون وشركات السياحة وصنُاع اللهو. هؤلاء دهشتهم داخلية، أصيلة، ولا تنفد.

بقلم : كوثر الأربش

copy short url   نسخ
24/03/2016
3489