+ A
A -
هل مِن مُسَوِّغ لِمَدّ القسوة التي تُؤَثِّث بحرَ الإبداع إن لم تَكُن القسوةُ سيرةً ومَسارا وسيرورةً؟!
القسوة ليل يَجمعنا موعد مع بطله العنيد بإصراره على ألا يَجعلَ المتلقي في منأى عن النصيب الذي نالَه منه (ليل القسوة). إنه أنطونان أرطو ANTONIN ARTAUD.
غير خاف أن الفرنسي أنطونان أرطو المخرج المسرحي والكاتب والممثل والشاعر والناقد الأشهر من نار على علم وصاحب كتاب «المسرح وقَرينه LE THEATRE ET SON DOUBLE» هو مؤسِّس مسرح القسوة LE THEATRE DE LA CRUAUTE.
ولا غرابة أن يَكون أنطونان المتشبع بالفكر السوريالي الرافض للواقعية قد نَظَّرَ لمسرحه (مسرح القسوة) في الكتاب نفسه المذكور (LE THEATRE ET SON DOUBLE).
فكرة مسرح القسوة أثارَتْ زوبعة في زمن ترويج الكاتب لنظريته، وكان الجديد الذي مَيَّزَ أنطونان أرطو هو حِرصه على أن يَجعلَ من الإخراج مَدرسةً تُعَلِّم البطولةَ من خلال التركيز على دور الحركة أساسا.
ما علاقة المسرح بالقسوة؟!
كيف يُمكن للقسوة أن تَصعدَ إلى الخشبة؟!
وكيف لِمُنَظِّر مسرح القسوة أن يُمَسْرِحَ القسوةَ؟!..
هذه طبعا ليست كل الأسئلة التي تَنتصب قُبَالَتَكَ، لكن لِنَقُلْ إنها تختزل أَهمّ ما يُمكن أن يَنْتَابَكَ وأنتَ تَقترب من قسوة أنطونان أرطو.
رحلة حياة أنطونان أرطو لا تَخلو بدورها من قسوة. فهو من تَحَدّ إلى آخَر، ومن انكسار إلى آخَر، ومن مجازفة إلى أخرى، ومن نكسة إلى أخرى شرب من بحر التجربة المالح الذي كان يُعَمِّق مأساةَ إحساسه بالحياة..
ذلك الإحساس الرافض لوجود أنطونان أرطو جَعَلَه يتآكل تحت نير الرفض، وبالتالي كانت تَنسف أرطو على التوالي هزائمه في معركة الحياة.
قراءة في التاريخ الكرونولوجي المستشَفّ من المحطات الزمنية التي عَبَرَ أحداثَها أنطونان أرطو تُفَسِّر بالحجة والبرهان وَطْأَةَ الإخفاق على نَفْس أنطونان..
هذا الإخفاق لم يَقِفْ عند حدود الإحساس القاسي به، وإنما تَجاوزه إلى التَّبِعات التي تَرَتَّبَتْ عنه..
والدليل؟!
الدليل لا يخرج يقينا عن النهايات الحزينة التي كتبها القَدَر لأنطونان أرطو وهو يأخذ مَقْعَدَه في كل مرة داخل مستشفيات الأمراض العقلية التي خَبَرَها وخَبَرَتْه، عَرفها وعرفَتْه حق المعرفة.
تَرَدُّد أنطونان أرطو على المصحات العقلية يَجْعَل الناظرَ لصفحات حياته التي لم تُشرقْ لها شمس يُفَكِّر مرارا في ما إذا كان من السهل على الآخَر أن يَفهم الحكمة من مسرح القسوة..
وهنا نَعود مجددا إلى فكرة القسوة في مسرح أرطو.. ونتساءل:
هل كان الرَّجُل يُريد أن يَجعلَ من خشبة المسرح حياةً صغيرة يُسَلِّطُ فيها الضوءَ على مجموع ما قابله في حياته من صفعات جَعَلَتْه لا يَرى من الحياة سوى الجانب الْمُظلِم؟!
هل من العدل والحكمة أن نُرْهِقَ المتفرج الأرطوي بعُروض تَتخذ من العنف بطلا إرضاءً لعقل مخرج مسرحي أَثْبَتَ لنا في المحطات الأخيرة من حياته أن عقلَه لم يكن يَنعم بالاستقرار الكافي، فما بالك بالتدبير الكافي لمؤسَّسة أفكاره؟!
هل الْمُراد من العرض الحركي ذي الوقع الصادم على المتفرج إشراك المتفرج في لعبة العنف من باب رَدّ الاعتبار لصرح الأمان المنهار؟!
إذا كان تفجير الصدمة بيت القصيد ومربط الفرس، فما الذي كان يستفيده المتفرج من هذا وذاك؟!
أم أن خَلْقَ الصدمة لم يكن أكثر من تَجَلٍّ لتجاوب أنطونان أرطو مع التيار السوريالي الذي صَيَّرَه رُؤيةً وخَطَّ تفكير يَحكم سائر تطلعاته إلى العرض المسرحي المنشود؟!..
ذَيْلُ الأسئلة أطول من أنفاسنا، ومن المؤكد أن سطرا واثنين لن يَرسما حُدودَه.. لكن لِنَتَّفِقْ باختصار على أن مسرح أنطونان أرطو ما سمي بمسرح القسوة سوى لأن المنتَظَر من النسق الحركي الذي يُخاطب حواس المتلقي فيه لا يَخرُج عن توقيع الحَدّ الأقصى من الإحساس بمشهَد العنف..
النص في مسرح أرطو لا يساوي كل شيء، لماذا؟ لأن المعول عليه هو اللَّعِب الحركي الذي يَجعل الجسدَ ينطق بما لا يَسَع النصَّ المنطوقَ قوله.. لذلك تَسقط سُلطة الكلمة.
من هنا، فإن النص الجسدي يَقول ما لا يَقوله النص الجاف على الورق، وكما لا يَخفى على أهل المسرح فإن النص الواحد (الحوار الواحد أو الجملة الواحدة مثلا) يمكن أن نؤديه بعشرات الطرق.
عندما يتكلم الجسد فهو يُحدث ثورة على ملفوظ اللسان كما نعرفه في حدوده الضيقة بوصفه باعثا على إخراج الصوت، فالحركة لسان آخَر، والإيماءة لسان، والتنقلات لسان، والرقص لسان، والحركة الميتة (السكون أو الجسد الجامد) لسان، والنظرة لسان، وتقطيب الحاجبين لسان.. وقِسْ على ذلك.
القسوة طَقس يَهدف إلى جعل المتفرج يُفْصِح عن عواطفه الداخلية التي لا يَجرؤ على إطلاق العنان لها في غير مقام القسوة.
القسوة تفصيل للخيال على مقاسات الجمهور الذي يُريد له أرطو الانطلاق إلى عالم الميتافيزيقا..
القسوة تَعني ضمن ما تَعنيه نَقْل المتفرج إلى عالَم الحُلم الذي يؤثثه اللامعقول صُوَرا وصراخا وأحلام منتصف النهار الهاربة من كَهْف الليل..
القسوة هي الفعل المحقِّق للخلاص التَّوَّاقة إليه روح المتفرج..
القسوة على طريقة أرطو تخويف.. القسوة ترويع.. القسوة هي كل ما من شأنه أن يُحْدث هَزَّة في قاع النفس الإنسانية.
لكل هذا فإن قسوة أرطو لم تَأتِ عبثا أو من فراغ.
وختاما لم يكن غريبا على أرطو أن يُصمم على تثبيت فكرة القسوة في مسرحه، كيف لا وهو الذي تَجَرَّعَ كأسَ القسوة منذ وقت مبكر ولم تَبخل عليه الحياة بالمحن وألوان المعاناة: العصبية، الاكتئاب، الإدمان، اختلال التوازن العقلي، سَيْره وهو نائم مما جعله يُعفى من المشاركة في القتال خلال الحرب العالمية.. إلى أن أعفاه السرطان من كابوس قاسٍ يُسمى الحياة.

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
29/07/2017
3226