+ A
A -
كان المنزل خاليا لكنه واقف وشامخ، سار معي في أرجائه، ثم انسحب ليتركني وحدي أتأمل بأسى تاريخ القصة اللعينة بكل ما آلت إليه وبكل ما حملته إلينا عبر الذاكرة والتجربة. عندما ذهبنا لعكا مدينته حيث تقطن والدته وأسرته الممتدة من عائلة جرار، أخذني لفندق عربي، كان ذلك الفندق من الفنادق القليلة المملوكة للعرب. في عكا العربية كشف لي الكثير عن تفاصيل الحياة في المدينة حيث تبلغ نسبة العرب فيها 30 %. سار معي نحو قلعتها التي تتبوأ مكانا مميزا في التاريخ الفلسطيني والإسلامي، ثم أخذني لمقبرة عكا حيث ترقد أخته د. لميس جرار التي توفيت في الولايات المتحدة منذ بضع سنوات، جاءت معنا للمقبرة ابنة لميس الذي التزم أديب برعايتها وتربيتها مع والدته في عكا.
وكم كانت الصدفة الكبرى عندما وجدت قرب قبر لميس قبراً لثلاثة من كبار مناضلي فلسطين محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي ممن أعدمتهم بريطانيا في عكا عام 1930 بسبب دورهم الكبير في ثورة البراق عام 1929. تلك المقبرة ليومنا هذا بحماية فلسطينيي عكا وسكانها العرب. سرنا أنا وأديب من مكان لآخر نستكشف عكا، رغم الفرحة بوجودي في قلب الأرض، تعايشت معي لحظات من الحزن، فحال فلسطين يعكس واقع الامة العربية والإسلامية وعمق الوهن الذي أصابها، لكن بوجود أديب يعود إلي التفاؤل بما قد يأتي به اليوم التالي. أرض فلسطين تنبت بطبيعتها شخصيات شامخة كأديب جرار.
أديب الذي قرأ كتابي «حياة غير آمنة» وقصة النضال عبر لبنان ونظم لي توقيعا للكتاب في رام الله بالتنسيق مع مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب(د. محمود سحويل) أصر أن يصحبني للحدود من الجانب الإسرائيلي، أراد أن يريني كيف يبدو كل شيء من الجانب الآخر لبنت جبيل ومارون الراس اللبنانيتين، كانت تلك مغامرة كبرى لأنه أدخلني لمستعمرات إسرائيلية كانت محطات لقصف المقاومة الفلسطينية في زمن السبعينيات والثمانينيات. كان يسير على الارض بثقة سكان البلاد الأصليين وكبريائهم.
ومن أقصى الحدود انتقلنا للناصرة تلك المدينة العربية التي نجحت في الحفاظ على وجودها رغم عوامل التهجير والاقتلاع، بقينا في فندقها العربي لليلة، التقيت اقرباء مباشرين لي من عائلة والدتي ممن استطاعوا تفادي مأساة التهجير الشامل من الارض. كان ذلك أول لقاء تعارف مع جزء هام من عائلتي الذي تشتت وتفرق بسبب قيام دولة إسرائيل عام 1948.
أحب اديب الحياة في عكا ورام الله، وكانت باريس محطته للراحة والتقاط الأنفاس. كان فرحا يوم أخذ جنسية فرنسية قبل عدة سنوات، أعلن لي: «الآن استطيع القدوم بسبب الصفة الفرنسية للكويت وزيارة أي دولة عربية أريد». شعوره بأنه يحيا في إسرائيل كأقلية عربية مضطهدة في دولة يهودية تعلن كل يوم بأنها وجدت من أجل المصادرة والتهويد جعلته يعشق الذهاب للعالم العربي وجعلته بنفس الوقت اكثر تمسكا بحقه في فلسطين. ففي العالم العربي أكان ذلك في القاهرة أو الأردن وفي الكويت يشعر أديب بأن من يشبهونه من العرب هم الأغلبية، وهذا زاد من فهمه لتلك الحالة التي أدت، بفضل الصهيونية والتهجير الممنهج، لتحويل الفلسطينيين في فلسطين 1948 لأقلية. في السنوات الاخيرة جاء زائرا للكويت وذهب للبنان ومر على مواقع عربية أخرى.
عاد اديب في يونيو 2017 لباريس بسبب طارئ صحي أصاب قلبه، وبعد الفحوصات تبين أنه مضطر لعملية جراحية كبيرة. تحدثنا قبل العملية، ثم تواعدنا على اللقاء في باريس في فترة النقاهة، واتفقنا أيضا أن نذهب في حج جديد لفلسطين ومعي أفراد عائلتي لنأخذ من المكان روحا جديدة ونستمع للمرابطين على الأرض الحافظين للتاريخ المقاومين للتهويد والأسر له.
عندما اندلعت أحداث القدس هذا الشهر شعرت بأن روح أديب التي صعدت للسماء تحيط بالمقاومين والمصلين. بلا أديب ستكون نكهة الذهاب لفلسطين مختلفة، لكن غيابه يؤكد أهمية البحث عن ذات التاريخ والأماكن والمواقع التي نشر فيها مقاومته اليومية للظلم والاحتلال. كان أديب متطوعا بلا تحفظ ومقاوما بصدق وتفاؤل في المكان السليب الذي صنع هويته وأسس وعيه ومعارفه.

بقلم : د. شفيق ناظم الغبرا
copy short url   نسخ
03/08/2017
2643