+ A
A -
الحَلاوةُ تَكون بِقَدر ما تَسْتَطْعِم الشيءَ.. تتذوقه فتَستسيغه ويُرْضيكَ.. وبالمثل يَلذّ لكَ الإحساسُ بجماله..
هكذا هي الحياة يا صديقي! رغم ذيل المشاكل والهموم والعوائق والإكراهات وسوى ذاك مما يَجْلِدُك، فلأن صانعَها الله جميل تَجِد فيها أنتَ ما يُبْهرك ويَأسرك ويَسحرك.
لكن متى؟! فقط إذا فَطنتَ إلى اكتشاف مواقع هذا الجمال وأَفْرَغْتَ بالَكَ من تَوافِه الأمور التي تَشغل البالَ مُحْتَمِيا بمعطف القناعة ومِظَلَّة الرضى تَتقدمكَ عصا الشكر تَلتمس بها الطريقَ.
أما إذا لم يُسعفكَ الحَظُّ لاكتشاف هذا الجمال فإنك ستُواصل رحلة الألم والمعاناة تَجرّ خلفك صخرة الحياة وأنتَ تُمَنِّي نَفْسَك بموعد مع الفرح في محطة من المحطات التي يَستوقفك فيها صعود جبل الظلمات:
- ظُلمة القلب الذي يَعمى..
- ظلمة العين التي لا تَعرف كيف تُزيح عنها غشاوةَ تحرشِ الشيطان بكَ..
- ظلمة الأُذن التي تَتَلَقَّف طَرْقَ طارِق ليس من عادته أن يَطرق في الخير..
- ظلمة القَدَم التي قد تَزلّ بك في دجنة ليل الشهوات لتنزلق إلى حيث لا تُريد المضغةُ التي تَنتفض بين ضُلوعك.. وقِسْ على ذلك من ظلمات.
هذا الإيمان سَمِّه الحصانَةَ، أو لِيَكُن الواقي.. إنه الإيمان، وكل شيء سوى سلطة الإيمان يَسقط.
الإيمان هو ما يفتقده غيرك، لذلك تَجِده (هذا الغير) قُبَالَةَ أول امتحان في الحياة، والحَياة مباراة، يُسَلِّم ورقةَ امتحانه فارغةً ويُنْهي الْمَشْهَدَ (مَشْهَد العُمر)، مُعْلِناً رُسوبَه وهو بيديه يُسدِل ستارَ الحياة..
ارنست همنغواي، لنُسَمِّه المأساة التي تُجَرْجِر عباءةَ العبث بالحياة.
كاتِبنا هذا نالَ حَظّاً من الْمَجد يَنْأى به عن الرغبة في التنازل عن الحياة: مبيعات كُتُبِه، نجاحه، جوائزه، كَوْنه جرَّب الزواجَ مرّات، حَقُّه مِن سُقْيَا الحُبّ.. أَبَعْدَ كل هذا يَزْهد ارنست همنغواي في تُفاحة الحياة؟!
ما أقسى أن تَعيش تحت سقف والدين لا يجمعهما الاهتمام نفسه، فوالدة ارنست حسّاسة مرهَفة تَقضي وقتها تحت شجرة الفن عاشقة الإنصات إلى حكمة الموسيقى، بينما والده في الطرف الآخَر من الجِسر تَجِد البندقيةَ لُعْبَتَه الْمُفَضَّلة هو الماهر في القنص وفي قصّ ثوب الموت على مقاس اشتهاءاته.
ألهذا جمع ارنست بين الموهبتين: الفن والقتل؟!
ألم تكن أُمُّه هائمة في بحر الموسيقى؟!
ألم يكون أبوه يُجيد العزفَ على فنون البندقية؟!
أكثر من هذا نجد أن من غرائب الصُّدَف أن يَكون ارنست واعياً بما فيه الكفاية بقسوة البندقية التي لَفّها الأبُ في ورق تلفيف وزَيَّنها بشرائط وردية من باب تهيئة ابنه لاستقبال الهدية، ومتى؟! قبل أن يُصبح الطفل فَتى!
البندقية نفسها تلك التي عاشت في حضن الصغير لم تَكُن لتُفارق السرير.. إننا نتحدث عن سرير الأحلام بما فيها من كوابيس تنصب خيمتها تحت شرفة النوم وعلى أعتاب اليقظة.
وهذا ارنست الذي كَشفَ رغبتَه في مصاحبة البندقية ولَمْ يُدارِها إذا به يَنغرس قريباً من دارِها، فكيف نُصَدِّق أنه قد يفكر في أن يَصْفقَ بابَها وهي التي جعلت الحياةَ صغيرة في عينيه كلما جَرَّبَ المسكين الإحساسَ بالفَقْد..
الفَقْدُ لَيل لا آخِرَ له، وصاحِبنا ارنست كان يُحَدِّق من ثقب باب الحياة في مقبرة الأموات التي اسَتَدْرَجَتْ إليها أكثر من عزيز على قلبه.. ولن تُصَدِّقوا كيف! بكامل إرادتهم..
يقينا ستُخَمِّنون في أن تَكون هذه العائلة، عائلة ارنست، تَضمّ أكثر من مجنون!
الجنون هو في حد ذاته موت صغير.. لكن ما كان يَحصل مع أفراد من عائلة ارنست لم يَخضع للبرمجة بطبيعة الحال.. بل مَن كان يُصَدِّق أن ارنست نفسه سيَخْطُو يوما ما هذه الخطوة؟!
فِكرة رَفْض الحياة لا تُولد «في يوم وليلة»، لكنها تَأتي بعد مخاض عسير يُمَهِّد له تَراكُم يُشَكِّل الضغطَ الذي يُولد الانفجارَ.
لكن لماذا لا نفكر في أن ارنست كان ضحية صراع خفي أَجَّجَه اختلاف الطباع والميول عند والديه، مما جعله يقف عند مفترق الطرق لا يَعرف أين يُوَجِّه مِقْوَد عربتِه؟!
إحساسُ الفنان الذي هو كُلّ تَرِكَة أُمِّه لم يَغِبْ عن ارنست، لكن في المقابل كانت هناك فجوة تَكبر يوماً بعد يوم، فجوة كان تأكل منها القسوة..
ولا غرابة أن يَكون الأب مسؤولاً عن هذه القسوة لما امتثل لرغبته في تعليم ابنه فنون الصيد في الوقت الذي كان يَحتاج فيه الابن إلى إغلاق كل النوافذ المطلة على عالَم الدماء التي كانت تُدفع قرابين مقابل الإحساس بزهو المنتصِر كما لو كان حيواناً يُطارد فريسةً فيُصَفِّق بِذَيْله راقصاً كلما قَبضَ على روحِ صَيْدٍ ثمين كما تَفعل الكِلاب الضواري.
هناك مَن يَقول إن ارنست كان يَخاف خوفاً فظيعاً من أن تَسْتَدْرِجَه الشيخوخةُ إلى حفرتها العميقة، وهو ما شَكَّلَ لديه فوبيا.. ولهذا يُرَجِّح أنصار هذا الرأي أن المسكين ارنست فَضَّل النجاة وقَطعَ حبلَ الحياة..
غير أن الطرفَ الآخَر يَرى أن الانتحارَ لم يَكن يَحتاج من ارنست إلى اتخاذ قَرار، لماذا؟! لأن مَن مالوا إلى هذه الفكرة يَجِدُون لهذه النهاية البائسة أسباباً قديمة ضاربة بجذورها في تَجَاويف قاع البنية التحتية التي بُنِيَ عليها هَيْكَل شجرة العائلة، وهو ما يُفَسِّر الأمرَ بقُصُور عقلي مُتَوارَث.
لن نُفَكِّرَ يقيناً في مُنعرَجات طريق وزن المآل الذي آل إليه ارنست بهذا الشكل، ولسنا في حاجة إلى شرح «لماذا؟»، ببساطة لأن كتابا لمؤلِّفه ارنست بجودة كتاب «العجوز والبحر» الذي جعله يحصد جائزة نوبل سيُعفينا من التشكيك في حظوظ ارنست من المنطق والعقل..
وفي كل الأحوال، فالنتيجة التي لا يَختلف فيها اثنان هي أن ارنست كان جباناً، ولهذا فَضَّلَ الهروبَ من ورطة تَآكُلِه في جحيم الحياة بالتعلق بحبل الموت الذي صَوَّرَ له (ارنست) عَقْلُه بأنه سيَنْتَشِله من جحيم مُحَقَّق لما عَوَّلَ على خَدَمات البندقية نفسِها رفيقته المخلصة لأوهامه وَصَوَّبَها في اتجاه فَمِه وأطلق رصاصتين..
فهل بهذه الطريقة يُنْقِذ ارنست الموقِفَ؟!
وهل بادر بإلغاء عقْد حياته، لأنه كان فعلاً يَخشى الدرجة الصفر للحياة (العجز والشيخوخة) أم لأنه كان يَخشى السكتة القلمية لما بدأتْ تُباغته أرض الكتابة بهزّات جعلَتْه لا يَتحمل فكرةَ أن يتوقف قلمُه عن العطاء بعد نجاح مذهِل في عالم الإِبداع وعالَم الصحافة معاً؟!
بعد هذا ألا يَحقّ لنا أن نتساءل بعين اليقين: كيف لإنسان عاقِل أن يَتركَ نفسَه أسيرَ الخواء الروحي الكاسِح الذي منه تتسلل إليه يَدُ الشيطان لتُصافِحَه ومن ثمة يَتعاقَدان، فيُعلِن الإنسان الطلاقَ حالِفاً ألا يَعُودَ إلى عصمتِه الإيمان؟!

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
05/08/2017
2835