+ A
A -
قارئي العزيز، إنَّ الدول التي تحترِم نفسها وشُعوبها تعزل المنظومة التعليميَّة تمامًا عن حقل التجييش السياسِي، لأنها تعِي جيدًا أنَّ أي اقحام للتعليم في قضايا الكسِب السياسِي سيؤدِّي إلى هدم البناء التنموي الاجتماعي الذي يهدف النظام التعليمي إلى بنائه، إنَّهُ في اتساعٍ أكبَر للامعقول العربِي قامَت دول الحصار الأربعَ بتسييس منظُومتِها التربويَّة بشكلٍ كامل جرّاءَ قراراتها التعسفيَّة الظالِمَة وألحقت الأذى والضرر الكبير برعاياها في المقام الأول وزجّت بهم في قاطِرَة السياسَة، وهي تعلَم جيدًا أنَّ طُلاب العِلم ليسَ لهُم ناقة ولا جمَل في حرب المراهقة السياسيَّة التي تخوضُها، لكنها استخدمت ورقة الضغط الخاطئة وقامت بتسييس التعليم؛ تمامًا كما تمّ استغلال الحج وممارسة الشعائر الدينيَّة وتسييس الدين من أجل السياسَة ومن أجل الضغط المُفلِس على قطر. إنَّه بذلك؛ قامت دُول الحصار بتأسيس نظام تربوي هَشّ لا أُفُق له، فالجماهير تتعلم من الحُكومات وتتأثَر بها أيَّمَا تأثُر، وما التأثير المنشودُ الذي تطمح أن تقومَ به هذه الدول التي «جَمرَكَت التعليم» وطردَت طُلاب العِلم القطريين من جامعاتها ومعاهدها رُغمَ بلوغ الكثير منهم على مشارِف التخرُّج، ورمَت بحصاد سنوات عمرهُم في تلَقِّي العِلم أدراج الرياح، وفي المقابل، أمرَت الحكُومة القطرية بتأجيل الامتحانات لطُلاب دول الحِصار حفاظًا على حقِّهم في متابعة التعليم، وكي لا يخسروا عامًا دراسيًا كاملًا.
لقد تعرّضَ تاريخ المجتمعات البشريَّة في تاريخ تطُرِها إلى خطر تسييس العلم، ورُبما من الأمثلة البارِزة على ذلك هو تفسير بعض الكهَنَة القُدماء لبعض الظواهر الفلكية؛ كظاهرة الخسوف والكُسوف في إطار أنَّها إشارة القبول الإلهي لنهج الحُكام في الحروب والمعارك التي كانت تُدار في تلك الحقَب بقصد كسب الرأي العام أولًا ومن ثمَّ تحقيق المكاسب السياسيَّة ونيل الرضا السيادي عنهم، ومن الأمثلة كذلك: ظاهرة الترهِيب الفِكري لأهل العلم في العصر العباسي، حيثُ تجرَّعَت طائفَة كبيرة من أرباب العلم والشُعراء لأنواعٍ من الترهيب والاضطِهاد نتيجةَ لأسبابِ سياسيَّة ودينيَة وشخصيةَ كذلك، فالعباسيون انتهجوا في كثيرٍ من الأحيان سياسَة تسييس العِلم بهدَف خِدمَة السُلطَة، وكان العِقاب ينزِل على كُل من كان يُخالِف نهجهُم هذا متعرضًا للتعذيب والترهيب، الأمر الذي كلَّفَ الأمَّة الإسلاميَّة خسارة فادِحَة بفقدِها لتلك الثروات العِلميَّة الهائلة التي دفعَت ثمَن حياتها بسبب وقوف السُلطة ضدّ طموحها وفكرها. لكننا اليوم؛ ونحنُ أبناء هذا الواقع الذي تطورت فيه سُبُل التقانَة الرقميَّة وأصبح في فضاء الكون منابر إعلاميَّة افتراضيَّة حُرَّة؛ جعلَت من موضوع تسييس أو جمركَة العلِم من المواضيع الحساسَة التي تستوجِب النقاش الجادّ من قبل أرباب العلِم قبل الساسَة وصُنَّاع القَرار وذلك بقَصِد مواجهَة التضليل العِلمي الذي يقوم به رجالُ السياسة لخدمة أجنداتهم المرحَلية أو للتأثير على القناعة المشتركَة للجماعات البشرية وذلك في حقبة زمنيَّة مُعينَة متجاهلين تمامًا خصوصيَّة النظام التعليمي الدقيقَة وحقائِق العلِم المُثبتَة.
إنَّ قطر أعطت الدول المحاصرة درسًا تربويًا جديدًا، تمثَّلَ في أنَّ الحكومات تلعب دورَ المُعَلِّم في كثيرٍ من الأحيان، حيثُ جعلَت المنظومَة التربويَّة أعلى من خلافات الساسَة وحصارهم الظالم، وقامت بدورٍ فعّال ورائع في الغرس الثقافي وتبنِي ونقِل القيم وإنتاج المعرفة، وأعتقد أنَّ التاريخ المنصِف لن ينسى دور قطر في معالجَة هذه المسألة بالشكل التربوي والسياسي السليم، إنَّ دولة قطر احتضنَت آثار الحصار في المنظومة التعليمية؛ على أبنائها وعلى أبناء دول الحصار وذلكَ بصدرٍ رحِب، معتبرةً التعليم همًا وطنيًا واحدًا لا يُمكن تجزيئُه أو تَسييسُه تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف، فالدوحة حافظَت على المنظومة التي تنتهجها وهي الشعب، ودول الحِصار ضحَت بشعوبها واستخدمتها كمطيَّة سياسية وهو أمرُ مرفُوض أخلاقيًا وسياسيًا.
قارئي العزيز، إنَّ الأهواء الشخصيَّة والطموحات السياسية عليها ألا تتغلَّبَ على التعاليم، فممارسَة السياسة المغموسَة والخلافات الأيديولوجيَّة العبثيَّة المشخصنَة تقودُ بالنهاية إلى مجتمعات خالية من أجواء الابداع والحُريَّة والاستقلاليَّة والتي يحتاجُها المجتمع في هذا العصر للانتعاش والنمو، وإنِّي لا أستبعِد ان يُغادِر طُلاب العلم الحقيقيون دول الحصار التي حدّت من فضاء طلبهم للعلم لتكسبهم الجامعات والدول الغربيَّة، تمامًا كما غادرَ مئات الآلاف من مفكري وعُلماء وبحاثة العرَب عندما ضاقت أوطانهم عليهم وقيدت شغفَهُم بالعلم وحطمت أحلامهم المجتهدة وأجبرتهم على مغادرتها يبحثون عن أملٍ جديد في مكان آخر من العالم رُغم ويلات الغُربَة والانعزال الإنساني والتِيه الثقافي والجُغرافي.
إنَّ دول الحصار عليها أن تعِي أنَّ التعليم لا يُعتبر امتيازًا؛ بل هو حقٌ من حقوق الإنسان، حيثُ يضمن قانون حقوق الإنسان الدولي والذي اعتمد عام 1948 الحق في التعليم، وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 على أنَّ «لكل شخص الحق في التعلم»، ومنذ ذلك الحين، أُعترف بالحق في التعليم على نطاق واسع وطورته عدد من الصكوك المعيارية الدولية التي وضعتها الأمم المتحدة، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية حقوق الطفل واتفاقية اليونيسكو لمكافحة التمييز في مجال التعليم، وبالتالي فإنَّ سياسَة دول الحصار المتمثلة في جمركة التعليم تعتبر مناقضة تمامًا لما جاءَ في كُل تلك القوانين والدساتير الدولية، الأمر الذي يجعلها تتورط أكثر وأكثر، حيثُ انَّ لدى جميع الدول التزامات فورية لتنفيذ الجوانب التالية من المعاهدات الدولية التي تعترف بالحق في التعليم وهي: أولًا: ضمان الالتزامات الأساسية الدُنيا لتلبية المستويات الأساسية للحق في التعليم، والتي تتضمن حظر التمييز في الحصول على التعليم، وضمان التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي للجميع، واحترام حرية الآباء في اختيار المدارس لأبنائهم غير تلك التي أنشأتها الحكومة، وحماية حرية الأفراد والهيئات في إنشاء المؤسسات التعليمية وإدارتها. ثانيًا: اتخاذ الخطوات المناسبة للإعمال الكامل للحق في التعليم باستخدام أقصى حدّ تسمح به مواردها المتاحة.
ثالثًا: عدم اتخاذ تدابير هدّامة، وهذا يعني ألا تتخذ الدولة خطوات تراجعية أو تدابير من شأنها أن تلغي الضمانات الموجودة للحق في التعليم.
إنَّهُ من المعروف بأنَّ الدُول تتلاقى وتتقاطع مصالحها بشتى أنواعها: سياسية واقتصادية واجتماعية، ويكُونُ القرار الأَول في حال الخلاف بينها؛ هو الأمر الذي يضمن مصالِح كل الأطراف، ولا يُلجأ إلى العلاجات الجراحية- التي يتحمل فيها الطرفان (الفاعل والمنفعل) ضريبةً ما- إلا عند انعدام الفُرَص أمام الحلِّ الآخر؛ هذا إن كانت المطالب معقولة، والطرف الذي تُوَجه الإجراءات ضِدّهُ وقف بالفعل مواقف غير مسؤولة، والواقِع يُنظر بفوضى سياسيَّة تجتاح دول الحصار التي ظلمَت نفسها ورعاياها كثيرًا، وهددَت مستقبل واقعهم التعليمي ولم تُفكِر إلا بتحقيق مكاسبها البرجوازيَّة المنفعيَّة، وحرمَت فيما حرمَت النظام التعليمي من فرصتِه الطبيعيَة في النمو على أساسٍ من الحريَة والاستقلالية والمهنية والجدارة، إنَّهُ على النظام التعليمي في كُلِّ مكان أن يتخَلَصَ من جُرعات التسييس العالية التي يُمارسها بعض المراهقين سياسيًا، الأمر الذي يؤهلُه للدخول في عملية الإصلاح الحقيقيَة، فاحترام المهنة الحقيقيَة للتعليم يبدأ في عدم جمركتِه سياسيًا، وطالب العلم عليه أن يسرَحَ في أرجاء الكون؛ طالبًا لنهمِه في التحصيل العلمي والبحثي والتدريبي دونَ أن تُفرَض عليه قيود بالية ومُضِرَة.
بقلم : خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
18/08/2017
2657