+ A
A -
تحدثنا في المقالتين السابقتين عن أسباب الأزمة المالية العالمية التي نشأت في الولايات المتحدة في 2007 وذكرنا أنها تتمحور حول الأخطاء التي تم ارتكابها في الفترات السابقة عليها من حيث إدارة الاقتصاد الأميركي.. وبينما كان السبب الرئيسي هو «تغيير قواعد الاحتفاظ بالرهن العقاري لدى المؤسسات المالية المقرضة»، إلا أننا شرحنا أيضاً السياسات الخاطئة التي اتبعها البنك الاحتياطي الفيدرالي وركزنا على فترة الرئيس «بيل كلينتون».. في مقال اليوم سنشرح ماذا حدث من أخطاء في فترة السنوات الثماني السابقة على الأزمة؟ وهي فترة الرئيس «جورج بوش الابن».
لقد أطلق الرئيس بوش الابن الموجة الثانية من القيود التنظيمية المضللة في قطاع البنوك التجارية تحت دعوى «التحرر المالي»، وفي حين كان الهدف المعلن هو منح المؤسسات المالية حرية أن تكون أكثر ابتكاراً وأكثر كفاءة، فلقد أثمرت النتائج عن ابتكارين «منتجين ماليين جديدين آنذاك» هما في الحقيقة لب الأزمة وسبب تفاقمها وانتشارها حتى خارج أميركا.. يتم تعريف المنتج الأول بالأوراق المالية المدعومة بالرهون العقارية والمنتج الثاني بمقايضات التخلف عن السداد.. والاثنان عرفا فيما بعد باسم «الأصول السامة»، أو كما أطلق عليهما «وارن بافيت» الملياردير الأميركي الشهير لقب «أسلحة الدمار الشامل المالية».
وببساطة شديدة فإن المنتج الأول يتم من خلاله شراء الأوراق المالية المدعومة أو المضمونة بواسطة الرهون العقارية (والتي هي في معظمها قروض ذات مخاطر عالية) من قبل البنوك الكبيرة، ويتم إعادة تجميعها وتغليفها على شكل صفقات جديدة مؤمنة، ومدعومة بالضمانات والسندات البنكية ويتم إعادة بيعها مرة أخرى إلى البنوك الأخرى وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المشترك، وصناديق التقاعد، والمستثمرين الوطنيين والدوليين.. ولقد تدافع هؤلاء المستثمرون (وبخاصة الدوليون) على شراء هذه الأصول وبأكثر من تريليون دولار حتى عام 2007.. ولذا حين بدأ المشترون وأصحاب العقارات الجديدة المقومة بأكثر من قيمتها الحقيقية في التخلف عن السداد ولم تستطع البنوك مصادرة هذه العقارات وإعادة بيعها، نظراً لانخفاض قيمتها السوقية ومن ثم انفجرت فقاعة قطاع العقارات كانت هذه الأدوات سبب تفاقم الخسائر وانتشارها إلى القطاعات والأسواق الأخرى المحلية والعالمية.
أما المنتج الثاني فهو عبارة عن صكوك تمثل مقايضات التخلف عن السداد، أو عقود التأمين التي يشتريها المستثمرون لحمايتهم من الخسائر في أوراقهم المدعومة أو المضمونة بالرهونات العقارية.. ولقد أوقعت هذه العقود إي جي (الشركة التأمينية العملاقة)، حيث فقدت ما يقارب 18 مليار دولار أميركي حين حلول الأزمة في 2007.
ومن الجدير بالذكر أن هذين المنتجين ما كان بالإمكان أن يتم خلقهما أو تداولهما لولا سياسات التحرر المالي التي سمحت بها الإدارة الأميركية حينئذ.. هذا كما أن الطريقة الرياضية (الحسابية) والنماذج الإحصائية والاحتمالية المعقدة التي كان يتم بها خلق هذه الأدوات وحسابات الأرباح والخسائر لها ما كانت لتتم لولا دخول عدد هائل من غير المتخصصين في العلوم الاجتماعية- من مهندسين وفيزيائيين ودارسي علوم الطبيعة والذين حلوا محل الاقتصاديين التقليديين- إلى الأسواق المالية والشركات الاستثمارية وشركات الأموال والتامين الكبرى.. ذلك لأنهم برعوا في استحداث مثل هذه الأدوات الرياضية المعقدة.. ولكن هذه النماذج كانت تفتقر لفهم الطبيعة البشرية وتعقيدات التغيرات التي تحدث في السلوك الإنساني.. ولذا لم تستطع هذه النماذج المعقدة بالتنبؤ بما حدث، لأن واضعيها تركوا البيانات تحدد نفسها ولم يكونوا قادرين على وضع محددات ومفسرات للسلوك الإنساني فكانت السقطة مدوية ومتفاقمة.
أخيراً أود أن أنهى هذه السلسلة التي تحاول أن تشرح أسباب حدوث الأزمة المالية العالمية بالإشارة إلى أن هذه هي أول أزمة يمكن وصفها حقاً بالعالمية والعابرة للقارات، حيث بدأت الأزمة وتم وضع بذورها– كما شرحنا في المقالتين السابقتين- في بلد واحد (الولايات المتحدة) ولكن نتائجها وثمارها السلبية طالت اقتصادات بلاد أخرى متعددة وعلى الجانب الآخر من المحيط (مثل إنجلترا والبرتغال وإسبانيا واليونان وآيسلاندا التي أوشكت على الإفلاس إبان الأزمة).. وذلك لأن العولمة الآن أكثر من أي وقت مضى، كما أن الحدود الجغرافية لم تعد تمثل عائقاً في سبيل انتقال السلع والخدمات والمنتجات البنكية والمالية على وجه الخصوص بسبب ثورة الاتصالات التي مازلنا نعيشها الآن.
إن الأزمة بينت بوضوح قصور أيديولوجية السوق الرأسمالي عن استيعاب كثير من التطورات الحديثة.. كما أتضح بأن الإيمان بأن الأسواق المالية هي دائماً عقلانية وفعالة، هو إيمان مشكوك فيه وأن هذه الأسواق تحتاج لعناية وتوجيه من قبل الحكومات.. ومن ثم فإن دور الدولة لن يتضاءل كما ترغب هذه الأيدولوجية وإنما سيزداد نتيجة زيادة التأثيرات السلبية الناشئة من خارج حدود الوطن وبات جلياً أن على الحكومات معالجاتها والتعامل معها.

بقلم : د. حسن يوسف علي
copy short url   نسخ
23/08/2017
2582