+ A
A -
إذا لم تكن أحداث القدس الأخيرة قد مثلت صدمة تنبه العقل العربي فتلك في حد ذاتها صدمة. ومع أن الصدمات في منطقتنا لا تتوقف إلا أن أياً منها لم يوقظ أو ينبه إلى الآن. لماذا؟ إما لأنها صدمات خفيفة، وهذا مستبعد، أو لأن الجسد اعتاد على الصدمات وهذا مرجح. الإجابة الأولى باليقين غير واردة لأن صدمات مثل نكبة 48 ونكسة 67 وحريق المسجد الأقصى في 1969 وغزو الكويت في 1990 وحصار قطر في 2017 لم تكن خفيفة بالمرة.
أما الإجابة الثانية فواردة. فالجسد العربي ربما مات ولم يعد فيه سوى اللسان. اعتاد بشكل غريب على التعايش مع العجز وبات في حاجة إلى تأهيل نفسي يساعده من جديد على رؤية الصدمة على أنها صدمة.
والدول مثل الأفراد قد لا تنهض أو تستفيق إلا لو تعرضت إلى صدمات. فالعقل والنصح والتفكير لا يساعدون بمفردهم في كل الحالات. لا بد أحياناً من وقوع صدمة. غزو خارجي، هزيمة عسكرية، ثورة شعبية، انهيار اقتصادي، حرب أهلية أو أي تحد كبير يفرض إعادة النظر في طريقة الفكر والحركة ويحث على اليقظة من بعد سبات. لكن إذا وقع بعض أو كل تلك الصدمات ولم يتغير شيء فتلك هي صدمة الصدمات أو صدمة الفشل في اكتشاف فكرة صادمة. والعرب يعيشون حالة أشبه بذلك. فقد أطالوا مرحة الانحطاط ومرت عليهم صدمات داخلية وخارجية عديدة ومع هذا لم تُغير أي صدمة من نمط تفكيرهم أو مقاربتهم لمشكلتهم الأساسية وهي ابتكار أسلوب عمل يختلف نوعياً عن ما اعتادوا عليه لمئات السنين.
يحتاج العرب مثلاً إلى صدمة تنبههم إلى أنهم ليسوا استثناءً فتعيدهم من جديد إلى تيار التاريخ ومسار الإنسانية. لكن كل الصدمات التي تعرضت لها شعوب أخرى أفاقتها، عجزت مع العرب. فبينما غيرت الثورة الفرنسية وجه أوروبا، فإن ثورات التحرر الوطني العربية انتهت كلها بتكريس الفشل. وبينما دفعت الهزيمة العسكرية المدوية باليابان إلى التفوق على نفسها وهزيمة من هزمها بأساليب جديدة، لم تنجح هزيمة عربية واحدة أمام إسرائيل في حمل العرب على ابتكار وسائل جديدة لوقفها عند حدها. ولا يمكن أن يعتبر ذلك إلا فضيحة للعقل العربي لأنه كان في حاجة إلى صدمة لتوقظه ثم تعرض لأكثر من صدمة لكنه ما زال يؤثر الانكسار على التفكير في رد الاعتبار.
ولعل الصدمة التي يحتاج العرب أن يتعرضوا لها لكي يفيقوا أن تكون صدمة فكرية تتحدي المنظور الذهني السائد بينهم. فالفكر هو مربط الفرس. وقد جرب العرب الحياة في ظل نظم ملكية وجمهورية، تقدمية ورجعية، ثورية ومحافظة، موالية لأميركا ومؤيدة للاتحاد السوفياتي، مطبعة مع إسرائيل وممانعة لها. لكن كل تلك النظم مهما اختلفت فيما بينها إلا أنها تشابهت في شيء واحد كارثي هو الذي منع كل الصدمات التي عاشها العرب من أن تغيرهم. هذا الأمر هو أن الدولة العربية عرفت كيف تحتفظ لنفسها برغم كل الصدمات بالقدرة على منع المجتمع من التفاعل الخلاق مع الصدمة. الدولة العربية مثلاً صدمت مجتمعاتها بهزيمة مذلة في 67 لكنها وصفتها بالنكسة والعثرة العابرة. وهي إلى اليوم تصدم مجتمعاتها إما بالتفريط في أرض بلا داع أو عقد معاهدات بلا رجوع للشعب أو بأسعار جهنمية تكسر حتى ظهر الميسورين. الدولة العربية عرفت كيف تمنع الصدمة من أن تحرك الفكر إلى مستوى التقدم بأفكار تغير الوضع الراهن. احتفظت لنفسها بحق صدم المجتمع ومنعته من التجاوب بأفكار خلاقة من أجل التغيير تنبع من رحم كل صدمة تعرض لها. منعت كل فكرة صادمة منبهة للناس من أن تعيش أو تنتشر. تقمعها بسرعة لأنها تكره الفكر المنبه وتدرك أن أوروبا لم تتغير فقط لأنها اكتشفت الصناعة أو طورت الديمقراطية وإنما لأن كل ذلك سبقته أفكار تنويرية صادمة تحدت المجتمع فتجاوب معها بشكل أعجز السلطات الحاكمة في أوروبا عن وقفها.
وبدون فكرة شجاعة تصدم السلطة والمجتمع معاً فلن تتخلى السلطة عن سوء فهمها لمعنى السلطة، ولن يتصور المجتمع نفسه إلا قطيعاً عليه أن يخضع بدون تفكير. والمشكلة الآن أن الأفكار الصادمة نفسها مقموعة اجتماعياً قبل أن تكون محرمة سياسياً. ولهذا لا يمكن توقع نجاح أي صدمة جديدة يتعرض لها العرب في حملهم على التغيير ما لم تتشجع الأفكار المقموعة على الخروج لتصدم المجتمع في صميم بنيته الذهنية. وهذه ليست مسؤولية السياسيين وإنما المثقفين. لكن المثقفين للأسف باتوا يشكلون في حد ذاتهم صدمة.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
28/08/2017
2980