+ A
A -
كان هذا السؤال يُطرح مجدداً منذ انطلاق الأزمة الخليجية، ومواسم التشديد المادي والمعنوي لحصار قطر، ويتوارى مع حضور الجهود الساعية للوساطة ولحل يبدأ بفك الاشتباك، ثم يُستدعى الانسحاب حين تنفجر الأمور مجدداً، ويُلاحظ في هذا الشأن أن خطاب تويتر الرسمي كان من أول انطلاقة الأزمة ذا نفس تحشيدي متطرف، لا يحمل مطلقا أي مسارات تفاوض ممكنة لحل الأزمة، وهو ما أثار الشكوك في قضية الرغبة في حل هذه الأزمة من عدمها.
الأمر الآخر، هو أن قرار انطلاق الأزمة لم يكن لديه مطالب حينها، فذات المطالب التي قُدمت بعد فترة من الحصار، تم التعريف لها رسمياً من قبل دول المحور، بأنها قُدمت فقط تكريما للشيخ صباح الأحمد أمير دولة الكويت، (وليس رغبة بالحل)، وحملت المطالب سلسلة إقرارات وتنازلات كبرى للدولة القَطرية وفتح حساب غير مقدر، بل تُرك مفتوحا لإلزام الجانب القطري، بإخضاع ثروته المادية وثروة أجياله لقائمة المطالب، ثم تُلزم الدوحة بإعلان رسمي بالقبول غير المشروط، للوصاية السياسية المطلقة.
ونُذكّر أن هذه التهديدات والتحريضات كانت تصدر من مواقع رسمية، هي تقول بلسانها، أنها لا تريد صلحاً ولا فضا للأزمة ولا عودة علاقات، قبل أن تعلن هذه المواقع خلال موسم هذا الحج، التسمية الرسمية لنواياها أمام العالم، لحكم انتقالي قهري في قطر، ينتزع البيعة ويسعى لقهر الناس في أرحامهم ومصالحهم.
مقابل ولائهم لتمرد سياسي وانقلاب على الدولة بخطاب رسمي صريح، كان يؤذّن فيه بكل حين في دول الحصار، أنه عمل مرفوض ومدان شرعياً خارج دولهم، ثم أصبح من أعمال النوافل والمستحبات التي يُدفع لها الشعب القطري.
واستُدعيت الفتوى السلفية المسيّسة من جديد لدعمه، بعد أن ضللته في دول الربيع العربي المختلفة، وكان الربيع ضد حاكم مستبد، خرج الناس ضده تمرداً على سجل قهري متوحش، في الشوارع بتوثيق إعلامي لقنوات أجنبية، فيما خرج الناس في قطر لتجديد ولائهم لأميرهم الشاب.
وحتى المختلف بالرأي في قطر، وهم يطرحون رأيهم في تويتر، كان شريكاً للقوة الجمعية الوطنية التي ترفض هذا الدفع لنموذج القهر الخارجي، ومحل الرأي لديها في تفصيلات دستورية للتعزيز السياسي للمواطنة، تحت مظلة ذات الأمير الشيخ تميم وفريقه.
وما يهمنا هنا، في هذا الاستدعاء الدقيق وتوصيف المشهد، هو كشف حقيقة ما يُمارسه السفير العتيبة، والوزير قرقاش، من إعلانات مترادفة بزعم عدم التجاوب القطري، في حين ذات المركز الرئيس للأزمة لم يكن يُقدم إلا تهديدات وتحريضات كبرى.
وأمام الضغط الدولي الذي بدأ يُصرّح بوضوح بضرورة وقف الأزمة ورفع الحصار، وانتهاء حملة الاعتماد الإعلامي لدول المحور في الأيام الأولى للأزمة على تصريحات ترامب، التي توارت كلياً اليوم، وبات منبر الخارجية الأميركية هو المعبّر لموقف واشنطن من الأزمة، أي لا رجوع مطلقا للتحريضات الأميركية على قطر، وأن المطلب الرئيس لواشنطن وقف التصعيد.
فإن مهمة الوزير قرقاش اليوم، هي رمي تغريدات سفسطائية، أمام الراي العام الخليجي، والموقف الدولي الذي يزداد تساؤله عن مبررات الأزمة، ثم يزداد استهجانه عن فكرة دعم صراع عنيف وانقلاب في قطر، يُتبنّى رسميا من دول المحور ولا جذور له شعبيا ولا أخلاقيا.
هنا يعود السؤال مجدداً ماذا تبقى من مصالح لقطر وشعبها، في رابطة مجلس التعاون الخليجي؟

قلنا في مقالات سابقة، إن الاتحاد الاجتماعي مع شعوب المنطقة أمرٌ مهم للغاية، ورابطة يتمسك بها الشعب القطري، كما أن طول الأزمة لا يعني عدم انصرامها، فانكسارها بدأ منذ فشل السيناريو الأول للاجتياح، ومهما تمت محاولة استعادة التهديدات وشحن أجواء المشهد الخليجي، فلن تخضع قطر، الأمرُ الآخر المهم، هو في معنى شخصنة الأزمة وربطها بذوات سياسية محددة، خارج شخصيات الدول الدبلوماسية.
وهو ما يعني أن هذه الرياح العاصفة، لا تنطلق من تقديرات مواقف مصالح دول، بقدر ما هي مشاعر حقد وكراهية، أخطر ما فيها استدعاء الفتن والصراعات القبلية، لتعزيز مشروع الحصار الاجتماعي لدول المحور.
واستمرار الدفع فيه يُعطي تساؤلاً كبيراً: هل نحن بصدد انتهاء مرحلة الجغرافيا السياسية القائمة، وأن حجم الفشل الخليجي اليوم، بات يعزّز فرصها، بدلاً من أن يحاصرها ويبني جسور مصالح قوية لوحدته القُطرية، وخاصة لصالح الأمن القومي للسعودية، ووحدة الموقف مع بقية دول الخليج العربي؟!
مسألة محيّرة بالفعل، حين يركز المراقب السياسي على هذا السلوك السياسي والإعلامي، ليس من خلال تقييمه الأخلاقي بل حتى السياسي، فهذه العواصف التي تجري تمكث بقاياها في الأرض ولا تزول بسهولة، ولو آذنت الأزمة بالرحيل.
أمام هذا المستوى والتداعيات برزت مخاوف قَطرية جدية، من استخدام الاتفاقات الخليجية، كممر لانتهاك سيادتها القومية والتدخل في شؤونها الداخلية، وبالتالي لا بد من وضع حد لذلك، رغم نجاح قطر في ربط الوحدة الداخلية بين المواطنين والمقيمين المتضامنين، ودسترة حق الانتماء الثنائي مع دولتهم الأصلية، عبر قانون الإقامة الدائمة.
وفق قواعد حقوقية مستلهمة من تجربة الحياة المدنية الغربية للمقيمين، ومفهوم التآخي الإنساني الذي كفله الإسلام، لكن في الحالة القطرية، يبدو أن لهذه البطاقة مشروعا تكميليا لم يعلن عنه، قد يكفل تعزيز حركة المواطنة بهدوء وتدرج، تُعزّز به البنية الديمغرافية لقطر.
لكن المشاعر والعلاقات الاجتماعية الحيوية التاريخية والوجودية، تظّل حاضرة بين أبناء الشعب القطري مع أشقائهم في ساحل الخليج وامتداداته، ولذلك فإن صانع القرار القطري يتأمل بعمق في هذا المفهوم، ونحن هنا لا ننصح بالانسحاب من المجلس الخليجي، رغم كل الظلم الذي تتعرض له قطر، فما الحل إذن؟
دعونا نذكّر أولاً بأن الكويت وعُمان، لهما موقف سياسي خاص، تميّز في الأزمة، ومن سمات البلدين أنهما حافظا على رابطهما بالمملكة العربية السعودية قديماً، مع وجود خصوصية اجتماعية للدولتين ينشأ عليها الجيل التربوي والثقافي في البلدين، وهي حالة تحتاج قطر أن تستفيد منها، بتوازن عروبي إسلامي إنساني راشد، فلربما كان القرب الكثير من السعودية بنوايا صادقة، يُفسّر سلبيا وهو ما حصل بالفعل، وحررناه هنا في سلسلة مقالات الوطن عن الأزمة الخليجية.
الأمرُ الثاني أن مثل هذا الأمر سيتم التشاور فيه مع الشريكين الخليجيين، ولا أتوقع تأييدهما لانسحاب الدوحة من المجلس الخليجي رغم وضعه السيئ، إنما الممكن جداً والذي قد تُقدم عليه قطر، هو إعلان تجميد كامل التزاماتها الاتفاقية في المجلس.
استناداً إلى مبرر يقيني وهو أن دول المحور في المجلس، أعلنت قطر خصماً رسمياً مستباح الاستهداف الشامل، والملاعنة والطعن في الأعراض، وفُتحت عليها كل أبواب التحريض، وأُعلنت من منصات رسمية استهداف أمنها وسيادتها واستقرارها السياسي (ونضع هنا خطا تحت منصات رسمية).
هذا التجميد الشامل أمام هذه الحملة العنيفة ضد قطر، سيكفل مرحلة انتقالية مهمة للدوحة، لمراجعة كامل الاتفاقات السياسية والأمنية التي استخدمت أصلا ضدها منذ 2014م، حتى نكسة بونيو الخليجية 2017، وفي ذات الوقت تُعيد دراسة هذا الواقع السياسي، وحجم وكيفية المساحة التي سيتم صناعتها، مع المحور الخليجي المناهض لسلمها واستقلالها.
في هذه اللحظة قد لا يبرز دور هذه المرحلة الانتقالية، لكنها ستكون حيوية جدا، حين يحين قرار وقف التجميد بتعديل الاتفاقات أو دونها، كما أن الشعب العربي في قطر، لن يشعر بانصرام روابطه، وإن كانت هذه الروابط سابقة للمجلس الخليجي، وإنما سيتم التعامل مع استغلال اتفاقيات المجلس بمنظور المصالح العليا للدولة والشعب القطري.
فإن قُدّر للمجلس بعثه من موته السريري، وهذا ليس بمستغرب لأن قرار بياته كان سياسيا ائتمر به تنفيذيا، حينها تكون الفرص مفتوحة لعلاقات إيجابية متوازنة، ولكن عبر مرحلة فك اشتباك لا مواسم مصالحة عاطفية، تنتهي إلى كمائن الأشقاء الكارثية.
بقلم : مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
30/08/2017
3960