+ A
A -
من حق المعارضة السياسية في العالم العربي أن تقول كل ما تريده عما تعرضت له على مدى عقود. فقد منعت من تنظيم نفسها وألقي بقياداتها في السجون وشوهت صورها واتهمت بالعمالة والخيانة والتآمر.
لسنوات طويلة لم تكن المعارضة السياسية في الدول العربية تتعرض لنكبة إلا لتعقبها نكبات أشد. وبرغم هذا لا يمكن لعاقل أن يُسلم بفرضية السحق التام للمعارضة أو بأن الإدارة السياسية للدولة العربية هي سبب ما حل بالمعارضة من ضعف وارتباك. المسألة أبعد من ذلك.
الدولة في منطقتنا منذ أن تكونت وهي لا تحب المعارضة لأنها تعكر مزاجها وتشوش خططها والأسوأ لأنها تتجرأ وتحلم بالوصول إلى السلطة. وللمنطقة تاريخ واسع في قمع الصوت المخالف يرجع إلى عشرات القرون مازال يؤثر على سيكولوجية الدولة والمعارضة معاً. فمن يصل إلى حكم الدولة لا ينظر لنفسه على أنه مدير لوطن مكلف بأداء مهمة بموجب عقد ولوقت محدد وإنما يتصرف وكأنه مالك أصلي لا يحق سؤاله عما يفعل في ملكه. وأما المعارضة فاعتادت أن تتشكل على ثلاثة ألوان. اللون المستأنس الذي يعارض كما يؤمر ولا تزيد وظيفته عن استكمال الشكل الديمقراطي. والثاني هو اللون الصوتي الباهت الذي يقف عند المعارضة اللفظية ويرفض خوض غمار أي تجربة تنافسية حتى لو سمحت بها الأجهزة النافذة. واللون الثالث هو الصبور طويل النفس الذي يعمل في حدود المتاح وكثيراً ما انتهى بعد طول صبر لأن يكون إما من اللون الأول أو الثاني. وينضم إلى هؤلاء لون رابع تمثله المعارضة المسلحة التي تتخذ العنف سبيلاً بعد أن انسداد كل قنوات التغيير السلمية.
لكن التاريخ كما ضنّ على المعارضة بالحريات منحها بين الحين والآخر فرصاً. والفرص التي لا تستغل في السياسة غالباً ما لا تأتي من جديد. وقد منح التاريخ فرصاً ذهبية للمعارضات العربية لكنها فرطت فيها. بل ومنحها كرماً حاتمياً في بعض المرات حينما حلت المعارضة محل الحكومات التي كانت تنتقدها. لكن المعارضات العربية فشلت وهي تعارض وفشلت كذلك لما تولت الحكم. لقد كان البعث قوة معارضة ثم صار له الأمر والنهي في كل من سوريا والعراق. وحصل الإخوان المسلمون في مصر على فرصة بعد ثورة يناير 2011 لن تعود. فقد تحولوا من المعارضة إلى الحكم ثم فقدوا الآن الاثنين معاً. لا هم عرفوا كيف يرضون الناس ليحافظوا على الحكم ولا باتوا مقبولين بعد فقدان الثقة فيهم كقوة معارضة.
ولا شك في أن الدولة العربية وآلة الحكم تتحمل نصيباً وافراً عن حالة الفشل السياسي للمعارضة خاصةً وأنها أغلقت أمامها الأبواب حتى لو كانت معارضة عاقلة. لكن المعارضات العربية تأبى إلا أن تؤكد بممارساتها أنها شريك في صناعة الفشل. فهي في سوريا متشظية إلى أبعد الحدود، جرى استدراجها بسهولة لعسكرة نفسها. وفي العراق غرقت شأنها شأن الحكومة في الميول والألوان الطائفية. وفي مصر نافست القوى المعارضة بعضها أكثر ما نافست الحكومة فأرهقت نفسها بنفسها. ولم يكن ذلك إلا جانباً من أخطائها.
ولما عجزت المعارضات الرسمية والمنظمة عن التغيير اضطر الشارع لتولى المسؤولية بنفسه فخرجت عدة ثورات قبل سنوات على هيئة معارضة جماهيرية واسعة. لكنها بدورها كانت قصيرة النفس ومحدودة الرؤية ومشوشة تفتقر إلى قيادة توجهها ما عجل بهزيمتها وسهل للقوى القديمة العميقة الفتك بها.
ومثلما حبست الدولة العربية نفسها في دائرة مفرغة من الأداء الركيك، حبست المعارضات السياسية العربية نفسها في دائرة أخرى مغلقة لو عرفت كيف تخرج منها لما كانت شريكة للدولة في صناعة الفشل. لقد حبست المعارضات العربية نفسها مثلاً في صراعات جانبية على الزعامة الحزبية ما جعلها تبدو معارضة من أجل الوجاهة الشخصية وليس لخدمة الوطن. وحبست نفسها كذلك في معارك أيديولوجية حادة بين الدين والعلمانية بدلاً من أن تهتم باتفاق عامة الناس على الحاجة إلى لقمة عيش كريمة. ومثل هذه التصرفات سهلت على آلة التفتيت السياسي الآمرة شرذمة المعارضة وتهميشها.
وفي ظل موجة سلطوية جديدة تنتعش بعد انكسار الثورات الأخيرة لن تجد المعارضات السياسية العربية الطريق أسهل أمامها عن ذي قبل. فها هي مثلاً في كل المفاوضات السورية تثبت تشتتاً جعل حتى المتعاطفين مع الثورة السورية يقولون بعد ست سنوات لم نعد نجد بديلاً. صحيح أن المعارضات العربية ضحية للقهر السياسي إلا أنها كذلك ضحية لنفسها وطريقة تفكيرها وتنظيمها وسلوكها.. باب التغيير إذن يبدو مغلقاً من الجانبين. من حكومات لا تحبه ومعارضات لا تفهمه. إنها منطقة وفية للجمود.
بقلم:د.إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
04/09/2017
3044