+ A
A -
الأوهام والتصورات الزائفة والمفاهيم الخاطئة، لها هيمنتها على المجتمعات، لكنها تتفاوت في إرادتها للتحرر من سطوتها، بمراجعات نقدية عميقة لمواريثها الثقافية المعوقة للنهوض، ولطالما تساءل مفكرو النهضة العربية: كيف حقق الآخرون هذه الحضارة المزدهرة، بينما كنا أصحاب حضارة زاهرة، وتراجعنا؟! هناك إجابات مختلفة لتعليل هذا التراجع، انشغل بها النهضويون وأصحاب المشاريع الإصلاحية، على امتداد قرن، لكني هنا، أركز على ما أتصوره المعوقات الرئيسية للنهضة، هي (الأوهام) الحاكمة لمجتمعاتنا، وتشكل تحديات أمام حركة البناء والتقدم، أصنفها في 6 أوهام رئيسية:
1 - وهم الماضي الزاهر: لا زالت الحياة العربية منشغلة بتمجيد وتبجيل الماضي، عبر رموزه وممثليه وخطبائه من على المنابر، ولا حرج في ذلك، إذا كان الهدف، استخلاص ما هو إيجابي من الماضي، لما يخدم التنمية، من قيم تستنهض الهمم وتحفز القدرات، وطبقا للدكتور إبراهيم عرفات، في مقاله الرائع عن توظيف النوستالجيا هناك فارق هائل بين إبستمولوجيا الماضي، ونوستالجيا الماضي، الأولى هي النظرة المعرفية العقلانية المدققة، وأما الثانية فرؤية تقديسية للماضي.. إن حشو أذهان الناشئة بأمجاد الماضي، دون رؤية متوازنة لما لنا، وما علينا، ودون توضيح لأخطائنا في حق الآخرين، وبخاصة الأقليات، وأخطاء الآخرين في حقنا، يورثهم استعلاء كاذباً وامتلاء فارغاً، يجعلهم غير قادرين على الإفادة من الماضي.
2 - وهم أفضلية الرجل على المرأة: إذا التمسنا عذراً لمجتمعاتنا قديماً، في نظرتها المنتقصة للمرأة، بسبب النظام الإنتاجي القائم على الحروب والغنائم، حين كانت المرأة، عنصراً غير منتج، فما عذر مجتمعاتنا المعاصرة، في نظرتها المهمشة للمرأة، وهي تشارك في تنمية مجتمعها بفعالية؟! لا زال وهم أعلوية الرجل حاكماً للعقلية العربية، لازالت المواطنة المتزوجة من غير المواطن، محرومة من نقل جنسيتها لأولادها في معظم التشريعات العربية، لا يزال نقل الجنسية حقاً حصرياً للرجل وحده! لا زالت المرأة في مجتمعاتنا، تعامل كمواطنة من الدرجة الثانية!
3 - وهم التآمر العالمي: يحتل هذا الوهم المساحة الأعظم في حياتنا، لازال قطاع كبير في مجتمعاتنا، وشخصيات سياسية وفكرية، يرون في ضرب البرجين، مؤامرة أميركية لاحتلال أفغانستان! لا زلنا نحمل مسؤولية الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي، على تآمر ابن سبأ اليهودي.
4 - وهم احتكار الجنة: كان هذا الزعم، هو الصفة الغالبة في التاريخ الإسلامي على كافة الفرق الإسلامية في منازعاتها حول من هي الفرقة الناجية التي تدخل الجنة! تسرب هذا الوهم إليها من حديث تنبأ بافتراق الأمة إلى 73 فرقة، كلها في النار، إلا واحدة! فأصبحت كل فرقة تدعي أنها على الحق المطلق وغيرها على باطل، ومع ان الحديث مشكوك في صحته عند المحققين، إلا أن الوهم الناتج منه، كان وراء صراعات الفرق الإسلامية في الماضي، والحاضر، وغاب عن هؤلاء أن جنة عرضها السماوات والأرض، فيها متسع لجميع من آمن وعمل صالحاً، برحمة الله تعالى الواسعة.
5 - وهم استرجاع دولة الخلافة: يستحوذ على أدبيات التيارات الإسلامية بكافة أطيافها، ومع ان نظام الخلافة التاريخي، ليس من أصول الدين الثابتة، بل من التدابير التنظيمية المتغيرة، إلا أن كافة التنظيمات، جعلته هدفاً محورياً في نشاطها. الدعوي والسياسي، في عصر ينبذ مثل هذا النظام! وما مزاعم داعش بإعلان دولة الخلافة، إلا أحد تجليات هذا الوهم الزائف
6 - وهم القنبلة الديموغرافية: وهم يسود لدى قطاعات جماهيرية ونخبوية، يرون في تكثير النسل السلاح الأقوى لمواجهة الأعداء! الفلسطينيون يرون في تكثير الإنجاب، أفضل أسلحتهم في المقاومة، المسلمون في أوروبا يرون في تزايدهم- تناسلا وهجرة- مع تناقص التناسل الأوروبي، مصلحة استراتيجية. المسلمون عامة، يرون الكثرة العددية، كثرة مطلوبة ومحمودة، يسري هذا الوهم في عمق اللاوعي الجمعي العربي، في الوقت الذي تتفوق إسرائيل بالكيف لا بالكم!
ختاماً: هناك أوهام أخرى تناولها الكاتب فاضل العُماني، منها: وهم الكمال، وهم الخصوصية، وهم الصواب، وهم الأعاصير عقوبات إلهية على الأعداء.. لكن التساؤل: كيف التحرر من سلطة هذه الأوهام؟ والجواب: بتشغيل آليات النقد والمراجعة، ورفع سقف الحريات، وقيام المجتمعات بتحمل مسؤولياتها، وتغيير طريقة التفكير، والانفتاح على العالم بخطاب متسامح.
بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
18/09/2017
5851