+ A
A -
في عام 1999 قصفت طائرات حلف شمال الأطلسي منطقة الجبل الأسود (مونتي نيغرو). أدى القصف إلى مقتل عشرة أشخاص وإلى تدمير عدد من المباني. يومها كان الجبل الأسود جزءاً من صربيا. وكان على رأس الدولة الصربية سلوبدان ميلوسوفياتش الذي أدين بارتكاب مجازر جماعية ضد المسلمين في كوسوفو. منذ عدة اشهر، انضم الجبل الأسود كدولة مستقلة إلى حلف شمال الأطلسي بعد الانفصال عن صربيا في عام 2006، ليصبح العضو التاسع والعشرين في الحلف.
لم تكن عملية الانضمام عادية. فالجبل الأسود يدين بالمسيحية الارثوذكسية مثل روسيا، وينطق باللغة الصربية أيضاً.
ولذلك فان خروجه عن المنظومة الروسية، وانضمامه إلى الحلف الأطلسي يشكل علامة فارقة في تطورات الصراع بين روسيا والحلف.
لم يكن الجبل الأسود الدولة الوحيدة في البلقان التي رمت نفسها في أحضان الحلف. فقد سبقها إليه كل من ألبانيا وكرواتيا وسلوفينيا في عام 2009.
الأولى دولة معظم سكانها من المسلمين، ومعظم سكان الدولتين الثانية والثالثة من المسيحيين الكاثوليك. ولذلك فاذا كان انضمامهما مفهوماً ومبرراً، فان انضمام الجبل الاسود يشكل تحدياً جريئاً لموسكو التي تعارض توسع الحلف شرقاً باتجاه الحدود الروسية ذاتها.
لم تعتبر روسيا انفصال الجبل الأسود عن صربيا خروجاً عليها. ولكنها تعاملت معه على أساس ان الانفصال مشكلة داخلية بين حليفين. ولذلك انهمرت الاستثمارات الروسية على الجبل الأسود بعد الانفصال، خاصة في مجالات السياحة، أملاً في احتوائه داخل المنظومة الروسية- الصربية. ولكن المفاجأة كانت في إصرار الدولة الحديثة والصغيرة جداً على الانضمام إلى حلف الأطلسي رغم تهديدات الكرملين أحياناً ورغم إغراءاته الاستثمارية أحياناً أخرى.
فمنذ عام 2006 وروسيا تستورد من الجبل الأسود «النبيذ». ولكن بعد قرار الانضمام إلى حلف الأطلسي اكتشف الروس أن في النبيذ جراثيم مضرة بالصحة. أما المشاريع السياحية، بما فيها مشروع لإقامة مجمع كبيرة على البحر الادرياتيكي تبلغ نفقاته 28 مليون دولار، فقد توقفت مع توقف استيراد «النبيذ».
لم تقتصر العقوبات الروسية على هذا الحد. فقد جرت محاولة لاغتيال رئيس وزراء الجبل الأسود ويسكو ماركوفيتش الذي قاد بلاده إلى الحلف الأطلسي، إلا أنه نجا من المحاولة بأعجوبة. يومها اتهم الرئيس نفسه خصومه من «عملاء موسكو» بالمحاولة.. التي لم يعلق عليها الكرملين بكلمة واحدة.
واليوم يطرح انضمام الجبل الأسود إلى حلف الأطلسي قضية سياسية– عسكرية مهمة جداً. لقد ارسل الكرملين رسالتين مباشرتين إلى بروكسل. الرسالة الأولى كانت بالهجوم العسكري المباشر على جورجيا في عام 2008، والرسالة الثانية كانت بالهجوم العسكري غير المباشر على كرواتيا في عام 2014. وكان مضمون الرسالتين واحداً وهو استخدام القوة العسكرية الروسية في وجه انضمام جورجيا وكرواتيا إلى الحلف.
وكان مؤتمر قمة لدول الأطلسي عقد في عام 2008 قد وافق على انضمام الدولتين الأمر، الذي أعتبره الاتحاد الروسي إعلاناً عدائياً وتحدياً سياسياً. فكان الرد عليه عسكرياً وسياسياً معاً.
رغم ذلك لا يزال الحلف يمارس سياسة الباب المفتوح مع دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءاً من حلف وارسو المناوئ لحلف الأطلسي بزعامة الكرملين. ويعبّر إقبال هذه الدول على طلب الانضمام إلى الحلف عن عمق المعاناة الإنسانية تحت مظلة الهيمنة السوفياتية السابقة..
أما رد فعل الكرملين فينطلق من حسابات أخرى.
فتوسع الحلف شرقاً يزيل «المساحة الرمادية» التي تفصل بين روسيا والغرب. وكلما تقلصت هذه المساحة، يزداد الشعور بخطر الاصطدام من جديد. ولعل هذا الشعور يفسر الكثير من مبادرات ردود الفعل التي يبديها الرئيس فلاديمير بوتين.
لقد حيّدت دول أوروبية عديدة نفسها عن التنافس السياسي – العسكري بين الكرملين والحلف. منها دول حدودية، مثل فنلندا ودول بعيدة عن الحدود مثل سويسرا والنمسا والسويد، وحتى ايرلندا. إلا أن بقية الدول التي انبثقت عن تمزق الاتحاد اليوغسلافي السابق تسعى جاهدة للانضمام إلى الحلف ومن هذه الدول: البوسنة وكوسوفو.
صحيح ان هذه الدول البلقانية تبعد زهاء ألف ميل عن الحدود الروسية، إلا ان خروجها من تحت المظلة السوفياتية السابقة من شأنه ان يقلب موازين القوى في أوروبا لغير مصلحة الكرملين.
من هنا علامة الاستفهام الكبيرة حول الموقف السلبي الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من دور الحلف ومستقبله في الاجتماع الأخير الذي عقد في بروكسل على خلفية اتهام الدول الأعضاء بالتقصير في تغطية نفقات الميزانية العسكرية، محذراً من أن الولايات المتحدة لن تقبل بعد الآن أن تتحمل نفقات الدفاع عن أوروبا. وتنص معاهدة الحلف على أن تخصص كل دولة عضو 4 بالمائة من دخلها القومي للدفاع العسكري. فهل تستطيع دول البلقان الصغيرة مثل الجبل الأسود أن تنصرف عن التنمية التي تحتاج إليها إلى الدفاع عن «مجهول»؟.
بقلم : محمد السماك
copy short url   نسخ
21/09/2017
3225