+ A
A -

فِكرة ثائرة تُصَوِّرُ لنا أنَّ من غير العدل ألاَّ يُحاكِمَ التاريخُ العباقرة.. والسؤال يا صديقي: كيف يعقل أن يَحصل على جائزة مِن مثيلات نوبل أو أخواتها مَن يَجلده ذَيْلُ التقلبات النفسية وسُوء الأحوال الجوية في دواخله التي كانت تُمطِر سَماءَ مِزاجِه بوابل من النوبات العصبية وغير ذلك مما يَقوده إلى ما يُداني حفرةَ الجنون إن لم يُفَكِّرْ في إعفاء نفسه من مواصلة الرحلة على قطار الحياة مُؤْثِرا القفزَ من النافذة في اتجاه اللاَّعودة؟!
إلى النرويج نُسافر هذه المرة لِنَقِفَ عند رصيف حياة كاتب يَكُونُه الحاضر الغائب كنوت هامسون KNUT HAMSUN، كنوت هامسون لِمَنْ لا يَعرِفُه هو هذا الذي كلما يُذْكَر تُذْكَر بالْمِثل روايتُه الخالدة الْمُسَمَّاة «الجوع»، الجوع الذي خَبَرَهُ صاحبنا كنوت بمعنى الكلمة..
كنوت هامسون هذا الذي عَرف الجوع حق المعرفة، ولامسه عن قرب، هو الهارب من صدى الجبال ومساء الحقول البارد والرغيف الفارّ من فَمٍ أنهكه الانتظار..
لِمَنْ يتصورون أن كُتَّابَ الغَرْب لا يَحملون هَمَّ الأكل والشُّرْب ويُحَلِّقُون على بساط الحياة الوردية نَقول: اِسأَلُوا، اِسْأَلُوا الظروفَ..
كنوت هامسون واحد من مَوْهوبي الغرب الذين عانوا من مخلفات الحَرب، حرب الرغيف الهارِب كِسْرَةً وحياةً، بينما كان الطريق عندهم إلى مدينة الإحساس بالرضا غير مُعَبَّد، ومِن أين له أن يَكون مُعَبَّداً وهم يَمْضُون على الجسر الذي يَربطهم بالغد حُفاةً عُراةً؟!
واحد من هؤلاء كان كنوت هامسون المعذَّب بحرمانه وشقائه بفكره السابق لزمنه، وهؤلاء قِلَّة، زادُهم الهزيل لم يَخرج عن شيء من الحكمة، وسِراجُهم كان ما تَرَسَّخَ في عيونهم مِن بريق الأمل في هبوب رياح التغيير مع ما تَيَسَّرَ في الوجدان من ثِقة بطلوع شمس الغَد كما كانوا يُفَصِّلُونه على مقاسات أحلامهم المشروعة، تلك الأحلام التي استكثرها عليهم الزمنُ فسَرق منها ما شاء وأجهضَ ما تَبَقَّى منها..
الكاتب كنوت الذي دَنَا من المائة سنة يَنتصر في ما كتبه للنقاء الإنساني الغائب في ظل تمرُّد المادية التي جَنَتْ على الْحِسّ والروح والطبيعة..
كنوت اللاعِب بترتيب الحروف يَتحدى الظروف، فيَقِف كَجِدار قُبَالَةَ الحياة الريفية التي رَفَضَها كمُعطَى لا يُشجِّع على التحرر من سلطة الإكراهات، ولذلك أعلن الثورة والعصيان متمردا على البيئة القاسية التي صحيح أنه أحبَّ تربتَها لكنه لم يَستوعب أن ظروفَها لا تَعترف بشيء يسمى التضحية..
شتان بين التضحية مِن أجلكَ والتضحية بِكَ. أما صاحبنا كنوت، فلم تُنصفه الظروف، الظروف التي قالت كلمتَها الأولى والأخيرة لِيَفهَم كنوت في وقت مُبَكِّر أن واقعَ حالِه كَتَبَ عنوانا لفصول كتاب حياته: التضحية به لا من أجله..
فهل يَقبل كنوت المجازَفة ويُبحِر ضِدّ التيار؟!
أم يكتفي المسكين بالاستسلام ويَنهار؟!
قَد يَقبل كنوت أيّ قرار إلا أن ينقاد..
لقد كَفَرَ كنوت بقاعدة الانقياد لسطوة الظروف، مع أنه دفع الثمن من صحته النفسية لا محالة، وجرَّب أن يُبحر على سفينة الكتابة لِيَرسم حدود عالَم تَسكنه التفاصيل التي يَعرفها جيدا، لماذا؟! لأن الفقرَ يَنبش النفسَ الإنسانية ويُعلِّمُكَ أن تعيش أدق التفاصيل مكسور الخاطر، مُعطَّل الإرادة، مكتفيا بالامتثال للصمت حيث لا قانون قوةٍ يُنصِفُك ولا لغة لا تَخونك إلا لغة الصمت..
في روايته «الجوع» (ومثيلاتها التي آزَرت صاحِبَها وأَهَّلَتْه لِيُغَطِّيَ هو الآخَر على ديناميت السويدي الفريد نوبل) وَجَدْنَا كنوت هامسون سَيِّدَ التفاصيل الذي لا تَفوتُه دَقائِق الأمور، وإذا به يَستوي عنده الغامض والواضح في ميزان الكشف والتحليل والتوضيح.. لا شيء يَفوتُ كنوت أن يَنفض عنه الغبار..
ابن الريف هامسون يَستمد من خصوصية الريف الذي ظَلَّ معلقا به رغم جفاءِ الظروف ووَطأة التنائي، ولا غرابة أن تَحمل كتاباتُه هذه المسحة التي تُلقي بظلالها على عوالِم تَسكنها الروح، روحه الهائمة بعيدا عن هوائها وسمائها..
الريف النرويجي ذاكرة وخَزَّان لتاريخ مَكان لم تَهجره الروحُ وإن كانَ قد غادَرَه الجسد.. كُلّ الصور (صور المكان) ظَلَّتْ عالِقة بالفكر والوجدان، ولم يَكن للنسيان يوما سلطة عليها..
الماضي حافل بالمعاناة، والذاكرة حقيبة تَحتفظ بكل وثيقة شاهدة على التاريخ الذي كان..اللحظة وثيقة، والْمَشهَد وثيقة، وكل واحد من الناس الذين عَرفَهم كنوت أو عَرَفُوه وثيقة..
ولهذا نجح كنوت في العودة إلى كل هذه الوثائق ليُسَيِّجَ عوالم جديدة انتقاها لأبطال حياته اللاحقة على الورق وهو يَزفّ شخصيات من ورق إلى بوابة الحياة المتخيَّلة قبل أن تَنتشلها السينما..
بُلوغ المجد ما أحلاه! لكن التذكر له وقع ما أقساه! ومهما نال كنوت من شهرة فإننا لا نصدق أنه سينسى حياة البؤس التي جَرَّعَتْه الكأسَ الْمُرَّة وهو من باب إلى باب يَركض..أبواب ما أكثرها لكنها لم تَستقبله إلا بما لا يَليق به من الأعمال التي كان هو مجبرا على القبول بها عَلَّه يَملأ فماً ضَلَّ الرغيفُ الهارب طريقَه إليه..
الرغيف الهارب لم يَكن ضالّة الفَم وحده، لماذا؟! لأن الذات التواقة إلى إرضاء شهوتها إلى رغيف الحياة كما تشتهيها نَفسُه لم تَجِد ما اشتهته هي الأخرى..
نَفْسُ كنوت كانَتْ مُتْعَبَة بحنينها إلى الانتصار لصوت الفِكر الذي لا يَتفق مع ما تَجَسَّدَ كينونةً، وفي الوقت نفسِه ظلتْ نَفْسُ كنوت مُتْعِبَة له برفضها لواقع رَأَتْ من غير الحكمة أن تُذعِنَ له وتَنساق..
الدفء الذي ظَلَّتْ روحُ كنوت تُنشده باتَ أكثر ما تَعَذَّرَ الوصول إليه، لذلك تفاقمَتْ مشاكله الصحية نتيجة صراعاته النفسية وإحباطاته على صعيد التجربة أو الاختيار الْمُرّ الذي جرَّه إلى أن يكون مرفوضا، تُهمته ما دافع عنه من أفكار لم تُدافع عنه في عيون الآخَر..
قد يَختلف الكثير حول شخصية كنوت هامسون المنتصِر لأفكاره ومبادئه.. لكن صَدِّقْ يا صديقي أن الكُلَّ يكاد يَتفق على أن كنوت يستحق التكريم كصانع لِمَجْدِه الأدبي تحت قُبَّة النرويج وخارجها، كما تستحق رواياتُه وكُتبه أن تُثَمَّنَ، كيف لا وهي تَحصد النجاح تلو النجاح، ومازالت إلى الآن تحظى بالاهتمام والمتابَعة..
فهل تَكون العُزلة والتوترات هي دائما السِّرّ وراء هذا الإقبال على الحياة كما تُجَسِّدُها خُطَّة الكتابة (وسلطة التخيُّل أو المحاكاة) على امتداد الصفحات؟!
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
07/10/2017
2819