+ A
A -
لا يمكن بأي حال الدفاع عن التفاهة أو الثناء على التافهين. فالتافه في اللغة هو الشيء الدنيء. والمشتغل بالتوافه هو الأحمق الضحل المتعلق بما ليست له قيمة. وفي الحديث الشريف ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سيأتي على الناس سنوات خدّعات، يُصّدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة....قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».
وما أكثر التافهين الذين يتكلمون اليوم في أمر العامة ويؤثرون في الشأن العام، بل وبات بعضهم يقدم تفاهته على أنها نبراس على الغير أن يحذو حذوه. وبكل أسف بات الإقبال على التفاهة ملحوظاً بعد أن رأى الناس عشرات التافهين وقد حققوا شهرة واسعة وأرباحاً خيالية رغم افتقارهم للجدية وإسرافهم في الابتذال. ساعدتهم على ذلك أدوات التسطيح المعرفي والترويج الاستهلاكي التي بات من الصعب كبحها. يكفي مثلاً أن نسمع عن صفحة إلكترونية هابطة يتابعها عشرات الألوف أو تغريدة مسفة يتفاعل معها ملايين أو قناة تليفزيونية ضحلة يتابعها جمهور غفير لنعرف كم تمكنت التفاهة من الحيز العام.
وكما ينساق كثيرون خلف التفاهة يندفع آخرون في نقدها إلى درجة يخلطون بسببها أحياناً بين التفاهة والترويح. البعض مثلاً يعتبر أن الغناء والموسيقى والرسم والفنون عموماً تفاهة، وأن الكحل في عين المرأة تفاهة مع أن الكحل، كما وصفته الأديبة السورية غادة السمان، «ليس مرادفاً للتفاهة وإنما التفاهة ألا يكون في عيني المرأة إلا الكحل». وبالمثل فالتفاهة ليست في الموسيقى أو في الفن أو التمثيل أو أي شيء آخر هكذا على إطلاقه وإنما فقط فيما ينحط بالذوق العام ويتدنى عن المألوف.
وبرغم التألم من انتشار مظاهر التفاهة إلا أن لها مع ذلك فوائد أو لنقل وظائف حميدة. وقد لفت إلى ذلك الأديب الشهير عباس محمود العقاد في معرض رده على سؤال عن الكتابات التافهة إذ قال «حتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته حيث أتعلم شيئاً جديداً عما هي التفاهة وكيف يكتب التافهون وفيم يفكرون».
ولعل تلك هي الوظيفة الأولى الحميدة للتفاهة. فهي تقدم للعقلاء مادة خام للتأمل والدراسة ومقياساً للحكم على حالة المجتمع وأين يتجه. وما انتشار التفاهة حالياً إلا جرس إنذار يحذر المجتمع من السقوط. فالعالم بوصف الأديب الإسباني «كارلس رويث ثافون» «لن يفنى بسبب قنبلة نووية بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة». التفاهة لذلك أشبه بتحذير للجميع قبل أن يقع السقوط الكبير.
وللتفاهة وظيفة ثانية عندما تتحول إلى دافع للإنسان لكي يتمسك بثوابت غالباً ما تنالها التفاهة بالطعن سواء كانت ثوابت دينية أو سياسية أو ثقافية. وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» فإن «التفاهة تشجع المرء على أن يبقى وفياً لقضيته لمجرد أن خصومه لا يغيرون تفاهتهم».
الوظيفة الثالثة للتفاهة هي الوظيفة الكاشفة. فكثير من التافهين لم يكن ليصبحوا كذلك إلا لأن المجتمع به خلل والسياسة بها عيب هو الذي سمح للتفاهة بالانتشار وللتافهين بالتمدد. انتشار التفاهة يعني أن هناك خطأ وأن منظومة القيم مختلة. أن الدولة تقصر عندما تترك التافهين يستحوذون على أعين وآذان الناس. إن هناك خللا هائلا في توزيع الثروة والشهرة. إن التمكين يذهب إلى من لا يستحق. إن حالة الإحباط العامة اتسعت فدفعت بكثيرين إلى التمادي في التفاهة هرباً من الواقع. التفاهة بهذا المعنى صوت احتجاجي يهرب من بؤس الحال حتى لا يواجهه بجدية.
ثم إن للتفاهة وظيفة رابعة منشأة. فمع انتشارها تنشأ حالة سخط. والسخط متى تراكم قد يدفع نحو التصويب للأحسن. وعادةً ما ينشأ مع التفاهة كذلك تيار مضاد يبالغ في الصرامة. في منطقتنا مثلاً لا يمكن لأحد أن يستبعد أن التزمت الديني وقفت وراءه حالة التفاهة ولو بمقدار. كما أن التفاهة كما تنبه الغافلين فإنها تلفت انتباه السلطات العامة إلى أهمية التحول من التمكين السلبي إلى التمكين الإيجابي بإزاحة التافهين من المواقع التي تركتهم يسطون عليها ليحل محلهم الفاهمون الواعون.
للتفاهة لذلك وظائف حميدة برغم أضرارها البالغة. وظائف تؤكد أن التصدي لها لن يكون كافياً فقط بالقانون وإنما بمعالجة السياق والبيئة التي فتحت للتافهين أبواباً جعلتهم يضعون أنفسهم فوق القانون والعرف والعادات والتقاليد وكل ما هو مقبول ومسموح. التافهون لن ينقرضون. لكن يمكن أن يُطوقون متى انتبهت السياسة والمجتمع إلى خطورة التسطيح الذهني والتجريف الأخلاقي والتخريب المعنوي الذي يقومون به.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
16/10/2017
3979