+ A
A -

الأنوثة عالَم دَفين، لا تُجَرِّبْ أن تَتسلل إليه يا مَن أنتَ به تَستهين، ففي غاباته حياةٌ أكبر مِن أن تَختزلَها أنتَ في تجربة، حياة تَهيم فيها الذات بتلك الأصوات والنبضات التي تُلوِّن لوحةَ الحياة بلون الحرية..
في محيطات عالَم الأنوثة لآلِئ لا تُقاومها غريزةُ العشق عندك، وفيها أطنان من الملح تُسعِف لِتَرشقَ عيون قلبك الْمُتَيَّم فتُعَلِّمَه درسَ الانتصار عليك إحساساً..
بعيداً، أبعد مِن حُدود قلبك، حضارة روحٍ وتاريخ ذات بَنَتْهُما أنثى صَنَعَتْ بإحساسها الروائعَ وظَلَّتْ على مَرّ الزمن شاعرة الْحُبّ، أو لِنَقُل إنها الشاعرة رقم «1» في مدينة الإحساس..
جَسد آخَر يَحمل قميصَ الاسم المستعار يُطِلّ علينا من قلب روسيا لِيَرسمَ لنا خريطةَ الأدب عند سيدة الأحاسيس والأشعار.. إنها الشهيرة باسم «آنا آخماتوفا».
لِمَن لا يَعرف آنا آخماتوفا، فهي الناي الشجي الذي يَعزف موسيقى الشعر كما يَطيب لروح جيَّاشة المشاعر أن تُعانِقَه وكما يَليقُ بعصافير الوجدان أن تُحاكيه بصوتها الأَسْيان..
آنا أندريفينا غورينكو، هذا هو الاسم الحقيقي للشاعرة التي لم يَرُقْ والدَها أندري غورينكو في بداياتها أن تَنشره (الاسم) وتُذَيِّلَ به كتاباتها في الجرائد كلما فتحها صباحا أو في المجلات..
الصَّبر والعناد، والقدرة على كسر الأَصْفاد، لِنُسَمِّ هذا وذاك الكلماتِ المفاتيح لصندوق مغلَق ما أصعب أن نَتَفَقَّدَ محتوياته لو لم تَأْذَنْ لنا الشاعرة التي تَركتْ بصمتَها الخاصة على الكتابة النسوية الروسية.. لا تستغرب يا صديقي، فهكذا الأمر كان مع صندوق الأنوثة!
هل أَقْسَمَ القَدَرُ على أن تَتكرر مع آنا آخماتوفا حكايةُ الطلاق الذي طرقَ بابَ والديها مُبَكِّرا قبل أن يُسَجِّلَ ثلاثية في حياة الشاعرة التي جَرَّبَت الزواجَ ثلاث مرات؟!
لماذا حَظُّ المرأة الكاتبة يُمطرها قسوة مُوديا بسفينة زواجها إلى الغرق غالبا قبل أن تَشرب نخبَ الحرف؟!..
الْحُلم عند آنا آخماتوفا شجرةُ آس لا تذبل ولا تَشيخ، ولعل هذا هو أكثر الدروس التي يَكتبها حصاد الأيام التي مهما جَفَتْ فإنها لم تَستدرج الشاعرةَ إلى شاطئ اليأس..
الأيام علَّمت الشاعرةَ أن تَستنجدَ بالورقة الرابحة، إنها روحها الهائمة في سماوات الإحساس، تلك الروح التي لم تَسمح للزمن أن يَقتلعَ شمس الْحُلم التي كانت تُضيءُ كوكبا تَوَّاقا إلى الدفء تَكونُه الأنثى كما جَسَّدَتْها آنا آخماتوفا..
فهل كان مِن دَافع ليتبدد الحُلم ويتلاشى عند خيمة قلب آنا آخماتوفا؟!
من المؤكد لا يا صديقي، ببساطة لأن عصافير قلب الشاعرة ظَلَّتْ تُؤمِن بضرورة التجدد وقابلية التغيير في رحلة البحث عن المصير على امتداد طرقات الحياة..
ولهذا كان من الطبيعي أن تَبحث الشاعرةُ الهائمة عن قلب رجل في مستوى انتظار وسادتها الناعمة، مما يفسر لنا أسباب إقبالها على الزواج أكثر من مرة:
- الشريك الأول: نيكولاي غوميلوف.
- الشريك الثاني: فلاديمير شيليكو.
- الشريك الثالث: نيكولاي بونين.
صحيح أن حِصان الزواج رَكَضَ بالشاعرة إلى أبعد نقطة ولم يُمْهِلْها الوقت الكافي للحساب والمراجعة مما جعلها تخوض غمار المعركة تلو الأخرى في ساحة الحياة الزوجية، غير أن من رحمة القاضي الذي يُسَمَّى القَدَر، ومن لطفه بها، أنها لم تُنجِبْ سوى مرة واحدة حتى لا تَخلو حياتُها من الإمتاع والفائدة..
فائدة حياة آنا آخماتوفا تتجلى في تَرِكَتِها الشِّعرية التي تُشَكِّل بالنسبة لعُشَّاق الحَرف واجهةً زجاجية تَعكسُ انعكاسا مرآويا العذوبةَ والصِّدْقَ الفني والإحساسَ العالي الذي تُمليه لحظةُ الإلهام (أو يُمليها)..
الأنوثة مظلة، والمظلة حلم، والحلم سفينة صحراء تَقودك إلى مَوْطِن الخَلْق الفني الذي تُبهر فيه الشاعرةُ وهي تُطلق العنان لخيط الإحساس حتى يُشَكِّلَ بالحُروف حريرَ المعاني الذي يُرضيك ويَسرّك يا حالما بالغَيْم في غير مواسم المطر..
شاعرة مثل آنا أخماتوفا لم تَأْتِ من فراغ، كما لم تَكُنْ وليدة بيئةٍ ثقافية تَنعدم فيها الحياةُ إلى الدرجة الصفر. ففي ذروة ذوبان الشاعرة على صفيح ما بعد الطلاق، كانت تَمسح الكُتُبَ مسحا لِتَقِفَ عند خصوصية الأدب الروسي والفرنسي كذلك، ومن ثمة باتت قادرة على أن تَبْنِيَ صَرْحَ مَجْدِها الشعري..
ويسألونها عن الشعر؟!
كيف لِآنا آخماتوفا ألا تَكون سيدة الشعر وفارسة الكلمة هي التي صافَحَها الإلهام ما أن تَخَطَّتْ عتبةَ عقدها الأول هي التي قالَتْ من أجمل ما قالَتْ:
«ثقيلة أنتِ يا ذاكرة الْحُبّ..
في دخانك أغني وأحترق..
أما الآخَرون، فلا يرون فيك إلا لهبا
يدفئ أرواحَهم الباردة؟؟
تلزمهم دموعي
كي يبعثوا الحرارةَ
في أجسادهم المنطفِئة»..
قَلَّ أن نَعرف شاعرة تَعرف كيف تَشدّ الآخَرين إليها بسِحر الحرف قبل سحر صورتها الفاتنة.. أفلا تَستحقُّ لذلك أن يُخَلِّدَها رجال الأدب والفن في أكثر من كِتاب ولَوحة ومعزوفة؟!
نعم، فالشاعرة ليست أيّ امرأة تَمضي من هنالك أو من هنا، فهي وحيدة زمنها التي غرفَتْ حُلْوَ الحياة شِعرا وحُبّاً ما غرفَتْه بالْمِثل (أو أكثر) انكسارا وأَلَماً لَمَّا استفحَلَتْ إحباطاتها التي أَقَلّ ما يُذْكَرُ منها اعتقال ابنها الوحيد والإكراهات السياسية التي تعرضت لها مع رفضها الرحيل عن الوطن، ناهيك عن إعدام زوجها السابق غوميلوف والتضييق الذي امتد إلى حركتها الشعرية عقب الحرب في ظل تمسك الشاعرة بالثوابت الفكرية التي لم تَكسرها الإملاءاتُ السياسية في زمن ستالين رغم فاصل الصمت الطويل الذي أَجْبَرَ الشاعرةَ على التوقف عن كتابة الشعر إلى أن استعادَتْ أنفاسَها..
صَدِّقْ يا صديقي، إن كان الرَّجُل يَحسب حسابَ المرأة العارفة التي يُخيفُه ذكاؤها أحيانا، فيُسقطها من حقيبة الشراكة الزوجية، أنَّ أصعب ما في الأمر المرأة الشاعرة، فهذه لها طقوس فردية وحياة أخرى موازية للحياة الثانية التي قد لا يَقوى هو (الرَّجُل) على تَفَهُّمِها بالقَدْر الذي يَسمح لِعَرَبَة الحياة اليومية بالتقدم دون حاجة إلى تضحية..
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
21/10/2017
3244