+ A
A -
مازالت حالة المخاض التي تعرفها تونس في انتقالها الديمقراطي وإعادة هيكلة البنية السياسية للدولة مستمرة للخروج من البنية الاستبدادية المتوارثة والتي هيمنت على البلاد طيلة عقود من سيطرة حكم الحزب الواحد والزعيم المطلق. وإذا كان من الممكن تثمين الخطوات التي قطعتها البلاد بتنظيم محطات انتخابية تعددية وإقرار دستور يحفظ الحقوق والحريات، فإن عقبات كثيرة مازالت تعطل مسيرة الإصلاح وتضع عراقيل كثيرة أمام خلق البيئة السياسية المناسبة التي تضمن استمرارية الوضع الديمقراطي الناشئ إثر ثورة 2011.
وإذا كانت المشكلات الاقتصادية والأمنية هي من قبيل القضايا المعتادة بالنسبة لدولة نامية هي جزء من محيط دولي وإقليمي متوتر ومضطرب فإن أزمة الوعي السياسي إن صح التعبير تظل المشكلة الأكثر خطورة وتأثيرا على مستقبل المسار السياسي بتونس. فالممارسة الديمقراطية تستلزم حضور نخبة سياسية واعية ومؤمنة بأهمية التحولات السياسية مع ما يفترضه الأمر من مراجعة كثير من المسلمات الفكرية التي تحكم النخبة السياسية في تونس وتشكل البنية العميقة التي تنجم عنها كل الأعراض المختلة في المشهد الحزبي والحكومي التونسي. فما طبيعة أزمة النخبة في تونس وما هي نتائجها وآثارها على الواقع السياسي في البلاد؟
من أهم ملامح النخبة السياسية المتنفذة في تونس، حالة الفصام التي تعانيها بين استفادتها من الوضع الديمقراطي الناشئ بفعل الثورة الشعبية لسنة 2011 وفي ذات الوقت عدم إيمانها بالديمقراطية في حد ذاتها بوصفها الآلية الأمثل للوصول إلى السلطة والتداول عليها. فبعض هؤلاء لايزال في مرحلة «الحنين» إلى زمن الاستبداد ورغم تموقعه في مجال الإعلام أو في أوساط الحكم بعد الثورة فإنه يواصل تشويه مُنجز 14 يناير 2011 وتصويره على انه مؤامرة استهدفت الدولة وأطاحت بالحاكم الذي يعتبرونه شرعيا رغم استبداده.
وفي المقابل فإن نخبا أخرى تتموقع في المعارضة إلا أنها تؤمن بمقولات من قبيل «الدكتاتور الوطني» وتدافع على أنظمة استبدادية متعفنة من قبيل نظام بشار الأسد في سوريا أو الدفاع عن نظام السيسي في مصر والتخندق في سياق الثورة المضادة التي تحرّكها دولة مثل الإمارات وكأنما الديمقراطية التي يعيشها هؤلاء في تونس هي مجرد فاصل يمكن التخلص منه عندما تتاح الفرصة لعودة نمط الحكم القائم على الطغيان.
وقد خلقت حالة الفصام هذه المتراوحة بين حالة انتقال ديمقراطي في البلاد ورغبة ثاوية في نفوس هؤلاء وحنينهم لنظام استبدادي يرونه المخلص من الأزمات إلى حالة انفصال عن الجمهور، لتنشأ صورة غريبة من القطيعة بين ما يمكن تسميته بحركية النخبة مقابل حركية الجمهور وهي وضعية نجد صداها في عجز هؤلاء عن التواصل مع الناس أو الانخراط العضوي في النشاط المجتمعي الأمر الذي حول هؤلاء النخبويين إلى مجموعات منبتة عن واقعها، منفصلة عن الحراك الجماهيري الذي أسقط النظام الاستبدادي.
فأجزاء واسعة من النخبة السياسية التونسية اليوم تمارس الديمقراطية من خلال منطق التعايش بالإكراه وهي تلجأ إلى الانتهازية في أقصى صورها من اجل إقصاء خصومها الإيديولوجيين وهو ما يجعلها على استعداد للتخلي عن مواقعها والمرور للتحالف مع رموز النظام القديم. فالنخبة السياسية بصورتها الحالية تعاني عقما فكريا وعجزا سياسيا وقصورا واضحا تجلى في عدم قدرتها على الإصلاح أو على تقديم البدائل القادرة على تحقيق النهوض المجتمعي الذي بات ضرورة وطنية في المرحلة الحالية. والمعروف أن غالبية النخبة الحزبية أو الإدارية المتنفذة اليوم هي ممن تربى في ظل الاستبداد ومارس السياسة بذات العقلية الإقصائية التي غرسها نظام الطغيان الأمر الذي جعلها تفقد ثقة الجيل الجديد وتتحول إلى مجرد تابع للنظام القائم وكأنما هي تحاول إعادة إنتاج التخلف السياسي للحفاظ على مصالحها ومواقعها، ما يعني انه لا يمكن أن ننتظر شيئا منها بقدر ما تحولت هي بذاتها إلى عائق أمام تحول ديمقراطي حقيقي يفي بوعوده ويقطع مع الماضي لبناء مستقبل سياسي يسع الجميع ويمنح الفرصة للجيل الجديد لإعادة بناء الوطن بصورة أفضل.

بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
16/11/2017
4363