+ A
A -
مع تنوع الأزمات التي باتت تعصف باستقرار ورفاهية الشرق الأوسط، لم تعد قواعد اللعبة السياسية تخضع لاستراتيجيات محددة يمكن البناء عليها لاستشراف المستقبل. فتحت تأثير التنوع والتعقيد في هذه الأزمات باتت سياسات الأطراف النافذة تعبيرا عن مجرد ردود أفعال تجاه بعضها البعض، وليست أفعالا مستقلة بذاتها، مما يجعل مستقبل المنطقة أكثر غموضا.
وإذا استعرنا شيئا من عالم الرياضات المختلفة، فإن المتابع لما يجرى من أحداث ساخنة في الشرق الأوسط وكيفية التعامل معها، يلحظ أنها تجرى كمباريات بين لاعبي كرة الطاولة (أو المضرب) وليس كمباريات لاعبي الشطرنج (رياضة عقلية). في الأولى يجري التنافس كردود أفعال ليس إلا، بينما في الثانية هناك تفكير عميق في كل خطوة وفقا لخطة في ذهن كل منافس. والاستعارة هنا مجازية لتقريب المعنى بالدرجة الأولى وليست للتشبيه المطلق.
والغرض أن التنافس الحميد على المصالح والنفوذ وتوجيه مسار الأحداث في منطقة غارقة في الأزمات مثل منطقة الشرق الأوسط لا يجب أن يكون محكوما فقط بسياسات رد الفعل، وإنما برؤى قائمة على حسابات دقيقة لا تحقق أهدافا آنية فقط وإنما تتعلق ببناء المستقبل.
التكلفة القاسية من وراء الاستسلام للتعامل برد الفعل لها شكل المنحنى التصاعدي، أي من أدنى إلى أعلى. لقد أصبح الاعتذار والتعبير عن الأسف من ظواهر المواقف الدولية المعاصرة، وهو ما لم يكن موجودا من قبل، وتداعياته السلبية تكمن في الافتقاد إلى المصداقية، وهنا يتراجع زخم التشبث بالأمل ويحل محله الإحباط والخوف وكلاهما لا يبني أمة بالطبع بل يجتثها من جذورها.
التعامل برد الفعل وجد جاذبية في الوقت المعاصر في ظل ما أتاحته تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والفضاء الإلكتروني من إمكانيات للرد السريع القاسي من الخصوم تجاه بعضهم البعض. هناك اليوم ما يسمى بالحروب الإلكترونية أو السيبرانية وفيها يتم تدمير منشىت ومصالح حيوية دون اللجوء إلى الحروب العسكرية المعروفة، وذلك عبر ما يسمى بالهجمات الإلكترونية. وهناك حروب الإعلام التقليدي المرئي والمقروء، والإعلام البديل من خلال المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي. كل هذه الآليات تجعل سرعة رد الفعل ممكنة ومؤثرة بالطبع.
ولكن المشكلة هي أن التكلفة أصبحت باهظة حقا من واقع ما هو قائم من صور للخراب والدمار هنا أو هناك. والجانب العربي من الشرق الأوسط هو الذي يدفع ثمنا أكبر من التكلفة مقارنة بغيره لسببين رئيسيين، أولهما أنه يمثل المنطقة الأكثر تعرضا للتنافس الدولي، التي تشهد صراعات مزمنة منذ زمن طويل. وثانيهما أنه لا يملك الوسائل والقدرات مثل غيره التي تمكنه من خوض معارك التنافس بمنطق رد الفعل ويضمن النجاح فيها. فقط يستطيع الصمود ولكنه لا يقدر على خوض المواجهة.
وبحسابات التكلفة والخسارة، فإن الجانب العربي هو الأكثر احتياجا للخروج من دائرة رد الفعل حتى لو كانت سمة لمواقف الكبار ممن يتحكمون في مصير العالم، إلى دائرة الفعل. هو الطرف الذي يدفع ثمنا باهظا للسير في هذه الدائرة، وبناء عليه فإن الحكمة والمصلحة الوطنية ثم القومية تحتم العودة عن هذا الطريق والسير في الدائرة الأخرى أي دائرة الفعل. ولا يتحقق ذلك إلا باستعادة العمل العربي المشترك. ليس ذلك من باب الشعارات كما ترسخ في الأذهان، وإنما من باب الحرص على البقاء. هذا العمل المشترك لا يتحقق إلا بالتوافق والحوار، لا بالاستقواء والإقصاء، وعندها يمكن القول إن الجانب العربي انتقل في إدارة شؤونه السياسية وعلاقاته الدولية والإقليمية من اللجوء إلى استلهام اللعب بقواعد لعبة المضرب أو الطاولة، إلى العمل بقواعد لعبة الشطرنج. قد تبدو الدعوة شبه مستحيلة في نظر البعض استنادا إلى المشهد البائس عربيا الممتد منذ عدة سنوات، ولكن ما يعزز ذلك أن التكلفة باتت باهظة حقا ولم يعد يسلم منها أحد.

بقلم : عبدالعاطي محمد
copy short url   نسخ
25/11/2017
2639