+ A
A -
قارئِي العَزيز في كُلِّ مكان، أُطِل عليكَ فِي إصداري الثانِي بِدُنيا النشِر والطِباعَة في مُؤلفٍ مُعَنوَن باسم «الخُروجُ للداخِل» ساعيةً أن أخرُجَ من جِلدَتِي الشاعِريَّة التي تعَوَّدَ عليها قارئِي وألِفَها قَلَمِي ودَانَ عليها فِكرِي مُددًا من الزَمن تجتازُ العَقدَ ونَيِّف، وها أنا اليوم أُحاوِلُ أن أخرُجَ من تِلكَ النمَطِيَّة التِي سيطَرَت عليّ طَويلًا، وبدا ذلِكَ جَليًا في إصداري الأوّل «رِيشَة حِبر» الذي خرَجَ إلى النُور عامَ 2016 ليحمِل بينَ دَفاتِه ما يزيدُ على خمسةٍ وأربعين مقالًا أدبيًا عكسَت أرشيفي الصَحفي خِلال سنواتٍ من الكِتابَة المُنَظمَة التي كانَت تفُوح مِنها رائحَة المشاعِر المُرهفَة البعيدَة عنِ لُغَة الواقِع السياسِي؛ الصارِمَة المباشِرَة، التي استخدمتُها بتمامِ القَصدِ والعَمد في هذا المُؤَلَّف الذَي خرَجَ بعد مخاضٍ عسير عانَت مِنهُ منطقَة الخليج ابتداءً من مايو 2017.
إنَّ حِصار قطر الجائِر فرَضَ علينا اتباع إيديولوجيا جديدَة في التعاطِي مع متغيراتِ الأزمة على كافّة الأصعدَة، ولعَلّ مَنابِرِي الإعلاميَّة؛ كونِي كاتبة عمود صحفي وناشِطة إعلاميًا واجتماعيًا؛ جَعلَتنِي أُقحِم نفسِي في السِياسَة كشاهدَة على مُجريات الزِيف والبُهتان وقارئَة للأحداث ومَحَلِلَة هذِه الوقائِع التي احتطبَت من أعصابِنا وأنفُسِنا الكثِير والكَثير، ومَعاذَ الله أن أكُونَ مِن هؤلاءِ الذين يُحاولون أن يكتبوا عن شيءٍ لم يكتمِل بعد خاصةً في السِياق السياسِي المتغيِّر في كُلِّ حِين، لكنِّي في هذه المُغامرَة التوثيقية الجادَّة أحاوِل أن أقدِّمَ سِجلًا مُدونًا للتاريخِ والوطَن، يسبُرُ المواقِف وردود الأفعال وانعكاسات الفَضاء السياسِي على العقلِ والوجدان معًا، وإنَّي أرجو من الله تعالى أن تكون هذهِ الغُمَّة بمثابة سحابَة صيف تنقشِع في أقرَبِ الآجال، متمنِّيَةً ألا يتحوّل هذا الكِتاب أبدًا إلى سِجِل «أزلِي» نستذكِر من خِلالِهِ الأحداث المؤلمَة في صيف 2017 الحارِق وما والاهُ من زمنٍ تابِع، اللهُ تعالى أعلمُ به، بل أرجو أن يكونَ إصدارِي توثيقًا نافِعًا لزمنٍ قريبٍ آت، وبصيرةً طيِّبة نهتدِي بها ونستنيرُ بضيائِها مهما انقلبَت الأيام وتكررت الأحداث والسيناريُوهات بشخُوصٍ وأزمِنَة مُغايِرَة.
إنَّ الكِتابَة السِياسيَّة الجادّة هِيَ اهتمامٌ بِبِناء الفضاء العُمومِي الذي يُعتَبَر شرطًا من شُروطِ جَدوى الكِتابَة، وتجيءُ الكِتابَة السِياسيَّة في وسائِل الإعلام الكلاسيكِيَّة والجَديدَة حامِلةً موقِف الشَعبِ من الحاكِم وموقِف الحاكِم من الشَعب، وتُصبِح هذه الكِتابَة في زماننا مؤهلَةً لكِتابَة التاريخِ الراهِن بما يتمتّعُ بِهِ أقلامُ الكُتّاب الأحرار من ثقافةٍ واسِعَة ووعي ونُضج وحِرَفيَّة وخروج تامٍّ من منطِق الدِعايّة المُغرِضَة، فالكاتِب الصحَفِي متى توفرَت عندَهُ قيمَةُ المصداقيَّة وحق الحُريَّة فإنَّهُ بإمكانِهِ أن يكتُبَ التاريخ بكُل إبهارٍ وجَلاء.
إنَّ كتابي الجديد «الخُروج للداخِل» يُعتبَر تمَثُّلًا ذاتيًا للكِتابَة الوطَنيَة التي أسرَت العقل والوجدان، واستدعَت السياسَة من حيثُ أعلَم ولا أعلَم، تلكَ الكِتابَة السياسيَّة التي أصبحت في عالَمِ اليَوم جنسًا مطلوبًا ومقروءًا لارتباطِها الوثيق بالآنِي؛ فالواقِع الآنِي يؤكِّد لنا بعدَ كُل هذهِ الظروف أنَّ الأبواب والمنافِذ المُختلِفَة لا تُقَرِر عنّا؛ ندخُل مِنها أو أن نخرُج منها، لندخُلَ مِنها بشكلٍ آخر، فإنَّ تداعِيات الحِصار جعلتنا نلتفِت إلى ذواتِنا أكثر فهذهِ المحنَة مُحاطَة بِمنَحٍ عظيمة استشعرَتها كُلُّ الأنفُسِ المؤمِنَة على هذِهِ الأرضِ الطَيِبَة، وأصبحنا اليوم نرفَع شِعاراتِ بناءٍ سامية لسانُ حالِها «لا يُوجَد خارِجٌ، كُلُّ شَيءٍ في الداخِل».
قارئِي العزيز، هُنا فِي «الخُروج للداخِل» أحاوِل أن أخرُجَ وأدخُل من السِياسَةِ إلى الوِجدان، حيثُ قدّمت في الشِق الأوّل من الكِتاب لعددٍ من المقالات التي تؤرِّخ لحِقبة زَمنية هامّة مِن تاريخ قطر بشكلٍ خاص وتاريخ منطقة الخليج والعالم أجمع بشكلٍ عام، حيثُ سعَيت أن أدوِّن الأحداث وأُعَلِّق عليها، قَدرَ المُستطاع، بالعَقلانِيَةِ والموضوعيَّة والحِياد، كما تَنَاولتُ فِي الشِق الثانِي من الكِتاب عددًا من التغريدات التي ناقَشَت في مضمونِها مُختَلَف مواضيع الحياة والإعلام والأديان، التي تعكِس منافِذ اهتمامات قلمِي وتُبَيِّن مُيولَةُ الوِجدانية الدَفِينَة. أيُّها العزيز فِي كُلِّ مكان، أتمنَّى لكَ مُغامرةً شائقةً ومفيدَة بينَ ثنايا هذا الإصدار الجَديد فِي كُلِّ شيء، وخروجًا سليمًا وموفقًا للداخِل بإذن الله تعالى.
وأختم حديثي بتقديم تشرفت به لأستاذي الدكتور محمد مصطفى سليم، أستاذ اللغة العربية بجامعة قطر حيث قال فيه: «لقد ارتبطت الذات عند خولة بمفهوم متجذر في كل نصوص الإصدار، ألا وهو (الوطن) أو- إذا أردنا الدقةَ- فإنه (قطر) التي أذابت، في مواجهتها أزمة الحصار، كل الفروق التي من شأنها التمييز بين متنفسي الحياة على أرضها؛ فلم يعد المواطن مواطنًا والمقيمُ مقيما؛ إذ أصبحت (القطري) سمةً تشير على كل من يعيش على أرضها؛ فلزمَ من الكاتبة أن تتبع الذود عن الوطن بوصفه قيمةً مستهدفةً من الآخرين، وهو ما بدا في الأحداث الجارية المتلاحقة، التي عبرت عنها في مقالات سياسية بالغة الدقة تتقصّدُ المساءلة الصريحة لكل ما يهددُ فيها طمأنينة الذات والمجتمع معًا. غير أن قيمة هذا التساؤل قد تعكسُ إشارةً مهمةً إلى أن الذات، ممثلة في التجربة الشعورية الخاصة، قد تشكل عبئًا على الكاتب إذا استسلم لإغراءاتها بالجنوح المفرط نحو الإحساس الفردي الخالص للذات ولم يتمرد عليها، خاصة إذا ما كانت تجربته غير خالصة الانتماء إلى جنس كتابي بعينه؛ فالتنقل بين الوجدان والسياسة يعني أن هناك حالةً من التأرجح المستمر بين الرغبة في السياحة التخييلية إبداعًا والالتزام بصرامة النظرة العقلية فكرًا، وقد يعني أيضًا أن هناك تغيّبًا ما للفهم الحديث لعملية الإبداع عندما يُحددها بأنها عملية وعيّ، ووعي ذهني بكل تأكيد؛ وبها يكون المنتج الإبداعي النهائي مردودًا إلى ملكة فكرية خاصة. ويصدق الأمر، وبوضوح، على جانب المكاشفة الوجدانية التي عبرت عنها جملةٌ من التغريدات المعبّرة، التي جعلتها خولة للرؤى الخاصة بها، والغريب فيها أنها لم تسلم في ذلك من جنوح قليل لاستدعاء التأثر بكل ما هو سياسي ذو أثرٍ بائن في مظاهر الحياة؛ فتمر بك تغريداتها من بيئة العمل إلى الذوق والأخلاق والشباب والتسامح والتواصل والشائعات، والتواصل البشري، والفيسبوك، من دون أن تهمل بعض اللقطات السياسية الحادة عندما تربط لك- مثلاً- سقوط الأمم بانهيار الأخلاق، وتتناول في تغريداتها حاجة الشعوب العربية إلى تربية سياسيَّة جادَّة، وتعرج على دسائس الإدارة الأميركية في عالم اليوم، ثم الثورة السورية. وهي في كل هذا المزج المتعمد تتبنى مقولة المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي: (العلم دون ضمير، ما هو إلا خرابٌ للروح)، فحُقّ لها أن تهيم باحثةً عن الروح في قلب العلم، أو الفكر في دهاليز الروح، إذ تقول: «وما أنا؛ إلا مسافرةٌ في مجاهل الأرض وفَلواتها، تقطعُني الحوادث المطَّرِدَة، وكلما مضيت في درب الحياة أكثر؛ زادت غُربتي عني وعن العالمين أكثر! أُلملمُني كلما استطعت، وأُفرِطُ مني في حين غرّة».

شكرًا عميقة للأستاذة الرائعة عائشة الكواري ولكل الزملاء الكرام بدار روزا للنشر على الدعم والمحبة الكبيرة.

بقلم : خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
01/12/2017
2858