+ A
A -
على أجنحة طائر الزمان الماضي بنا بسرعة الريح المجنونة، نَسْتَلُّ سيفَ الأمنيات، لِنَشقَّ الغيمَ غيمة غيمة، على أمل أن تَضرب لنا الحياة موعداً مع المطر.. المطر! المطر ذاك الذي قد يأتي ولا يأتي.. لكننا قد نقبل أن نَدفع قِطعةً من عمرنا إرضاءً لغرور رغبتنا في غير المطر الحالفّ ألاَّ يَعود.. وبقدر ما يَجلدنا ذيل الخيبة تَرانا نَلوم طائر الزمان، الزمان الذي لا يَأبه لنا كما نَتصور، ولا يُعير توقَنا اهتماماً، تَوقنا إلى لحظة فَرَح عندها تَتجمد ساعةُ الزمان ويَسقط حُكم عقاربها.
هل كان الزمان لا يَأبه لنا بحكم سرعته؟! أم كان لا يَأبه لنا بحكم مناطحته لطواحين القَدَر؟! العيب فينا لا في الزمان، هكذا يَقول الإمام الشافعي سَيِّد الحكمة ذاك الذي يَرتفع صوتُه في صومعة الشعر أعلى فأعلى:
«نَعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سِوانا
ونَهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نَطق الزمان لنا هَجانا
وليس الذئب يَأكل لحمَ ذئب ويَأكل بعضنا بعضا عيانا» (الشافعي).
منظومة الزمان في شعر الشافعي لا تُضْمِرُ سوءَ استعمال الإنسان له أو تُخفي نظرتَه الدونية إليه، مع أن الأصَحّ أن يَعيب الإنسانَ الزمنُ وينتقص من مهارته في تحقيق تَوافُق معه.
رؤية الشافعي للشعر تَكشف عن بِناء مصالحة معه بعد أن تَهَوَّرَ الإنسان باتخاذ قرار القطيعة مُصِرّاً على أن يُعَلِّقَ إخفاقاتِه على مشجب الزمان، الزمان البريء من دم الخسارات المتتالية.
لعبة الزمان الطَّيِّعَة في يَد الإنسان، اُنْظُرْ ما تَفعل بنا! إنها تَستدرجنا إلى حدود الغابة التي يَسبقنا إليها الشافعي لِيُوَجِّهَ أصابعَ الاتهام إلى ذئابها.. إنها غابة الحياة التي ليس مِنَ العَدل أن نَتَّهِمَ الزمان بكونه مسؤولاً عن كل ما تَعرفه مِن مجازر.
وأيّ مجازر؟! تلك التي يَكون بطلَها الإنسانُ.. لكن أليس ذاك الإنسان هو نفسه مَن تَتخذه قُوتاً طاحونةُ الزمان؟! العكس هو الصحيح تماماً في إضاءات الشافعي:
«قنعتُ بالقوت من زماني وصنتُ نفسي عن الهوان
خوفاً مِن الناس أن يَقولوا فَضْل فلان على فلان
مَن كنتُ عن ماله غنياً فلا أُبالي إذا جَفاني
ومَن رآني بعين نقص رأيتُه كامل المعاني» (الشافعي).
الزمان ذاته الذي يُصافحكَ بِيَد، ويَمدّ لك القُوتَ باليَد الأخرى، يَمكر مكره، فيَطعنك من الخلف مهما اجتهدتَ في أن تُخْلِصَ له وتَبسط له جسرَ المودة..
تَوَقَّعْ طعنةَ الغدر من الزمان، فهو وحده يُجاريك إلى أن يسقيك كأسَ الغدر.. قد تَشكّ في كل من يسقيك كأساً، لكنك يقيناً لن تَشكّ في الزمان ذاك الذي يَرتدي عباءة البراءة حتى يَسقط مِن دائرة شَكِّكَ.. ألهذا بِتْنَا نُرَدِّد: «لا تَأْسَفَن على غدر الزمان..» (الشافعي)؟!
وكيف لنا ألاَّ نَأسف على غدر الزمان؟! ومِن أين لنا أن نَعقد المصالحة مع الزمان وهو المسؤول عن كل نبضة فرح لا يَزفّها إلينا القلبُ في وقتها؟!
فرح يؤجله القلب، إنه القلب المحتمي بمظلة الحظ المثقوبة، تلك المظلة التي تُبَلِّلُه بالوحدة على امتداد طريق العمر الموحش.
جسور اليقين الْمُعَلَّقَة على حبال شَكِّنا في الغَد المنتظَر تُعَلِّقُ قلوبَنا بالقَدَر، وتُرَتِّب لنا مواعيد مع المستحيل الذي يُقَيِّدُ معصمَ الممكن ويَجرُّه جَرّا إلى الهاوية.
أَتُصَدِّقُ يا صديقي أن ما من هاوية تُذْكَرُ غير أهواء النفس الرافضة لوجودها رغم وجودها؟!
سواء في ظل وجود الرفض أم عدمه، وفي حضور هوى النفس أم في غيابه، لِنَقُلْ إِنَّهُ القضاء، وللقضاء كلمة لا تَسقط، وحُكم لا يُرَدّ:
«دَعِ الأيامَ تَفعل ما تَشاء وطِبْ نفساً إذا حَكَمَ القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي، فما لحوادث الدنيا بقاء
وكُنْ رَجُلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والوفاء» (الشافعي).
أليس هذا مقصّ الزمن يَقصّ حياتَك على مقاسات القضاء الذي ما عليك أمامه إلا أن تَمتثل مُذْعِناً؟!
أليس هذا المراد استيعابه من جدلية البقاء والرحيل، كما يُفسرها منطق الشافعي؟! أليس هذا مضمون أن يراكَ الزمن عصي الدمع شيمتك الصبر؟!
قطار الأيام ماضٍ، وأنت في مقطورتك وحيد لا تَعرف في أي محطة سيُلقى بك، لكن ثِقْ بعقيدة قلبِكَ السَّمْحَة، فمَعَهَا لن تَسمح الراحةُ لنفسها بألاَّ تَعرفك على امتداد الطريق الْمُسَمَّى حياتك..
ولأن الحياةَ فُسحة من الزمان، فما عليك إلا أن تَمضي بها إلى حيث يَشاء لك هو (الزمان):
«كُنْ سائراً في ذا الزمان بسيره وعَن الورى كُنْ راهباً في ديره
واغسلْ يديك من الزمان وأهله واحذرْ مودتهم تَنَلْ من خيره
إني اطَّلَعْتُ فلم أَجِدْ لي صاحباً أصحبه في الدهر لا في غيره
فتركتُ أسفلهم لكثرة شره وتركتُ أعلاهم لقلة خيره» (الشافعي).
لا مجال لتُتْعِبَ نفسك ببناء جسور تُسَهِّل طريقَ الخلق إليك، فلن تَكون تلك أكثر من جسور تَبيع لكَ الوهمَ، إن لم تتحطم فوق رأسك بما تسبب لك من أذى نتيجة ما قد يصور لك عقلك من علاقات وهمية مع مَن لا يَستحقون شيئاً من الثقة في أحسن الظروف..
شَرِّقْ إذا شَرَّقَ الزمان، وغَرِّبْ إذا غَرَّبَ الزمان. الزمان يُعاديك بِقَدر ما يَتودد لك أهلُه، وأهل الزمان يُعادونك بقدر ما يَتودد لك الزمان..
رسالة الشافعي وَصَلَتْ: دَعْكَ مِن الناس، وصاحِبْ نَفْسَك.. هوى النفس يَجري بما لا تَشتهي سُفُن الزمان، وهوى الزمان يَجري بما لا تَشتهي سُفُنُ أهله..
خير الخَلْق وشرُّهم تُحَرِّكُهُم عَصا الزمان، وبعيداً عن تَرتيبات الزمان لا تَستقيم حياة إنسان..
الزمان أصعب مِن أن تُفَكِّرَ في لَيِّ عُنُقِه أو ذراعه، فاحْذَرْ غَدْرَه كُلَّ الحَذَر:
«دَعِ الأيام تَغدر كل حين
فما يُغني عن الموت الدواء» (الشافعي).
أهناك ضَربة أكثر إيلاماً مِن ضربة الزمن؟! أم هناك قرصة موجِعة لأذن الإنسان أسوأ مما يَفعله أُصْبُعا الزمان؟!
كُن مع الزمان تنَلْ رضاه، وتَجَنَّبْ أن يُعميك ليلُه.. لكن هل يَرضى عنك الزمان كل الرضى ليُذيقك مِن عسلِه دون أن يَلسعك نحلُه؟!:
«الدهر يومان ذا أمن وذا خطر والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
أما تَرى البحرَ تعلو فوقه جيف وتَستقر بأقـصى قـاعه الدرر
وفي السماء نجوم لا عداد لها وليس يكسف إلا الشمس والقمر» (الشافعي).
بين الأمن والخطر غَضْبَة، وبين الصفو والكدر كَأْس، وبين الجيف والدرر بَحْر، وبين الشمس والقمر عَرْش.. غضبة الزمان لا طاقة لك بها، فاسْمُ بأعمالك تَنْجُ.. وكأس الزمان ازهدْ فيها طَوْعاً فتَحْتَ قدميك نَهر.. وبَحر الزمان جَرِّبْ أن تَتَحَدَّاه تَعِشْ صَريعَ أهواء مارِدِه.. وعَرش الزمان بِقَدْر ما تُنْزِلُهُ مَنازلَ في قلبك يَرْفَعُكَ.
نخلة الزمن (كما يصوره الشافعي) يُغريك بَلَحُها باكتشاف طعمه، صحيح أنه قد يَختلف كثيراً أو قليلاً عن أيَّامك، لكنَّ مَذْهَبَ القسوة واحد، وقانون المضِيّ تُحَرِّكُه العَجَلةُ نَفْسُها..فَلْتَكُن العِبرةُ بِحَجْم الْمُعْطَى.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
02/12/2017
3967