+ A
A -
يقال إن الحياة رحلة، وتقول الأسطورة إن كل إنسان سيستعرض شريط رحلة حياته أمام عينه وهو على فراش الموت، وقليلون من سيبتسمون ليقولوا: «لقد كان هذا حسناً»، ثم يرحلون في هدوء.
ككثر من البشر مغرمة أنا بالسفر، ولطالما استعرضت شريط رحلتي عقب كل رحلة، والغريب أنني كنت ألمس عنصراً جوهرياً يحدد ما إذا كنت أستطيع تقرير ما إذا كان هذا حسناً أم لا، وهذا العنصر هو السائق الذي غالباً ما يصاحبني في جزء كبير من الرحلة.
كم من حكايات سمعتها وقصص عايشتها بهذا المقعد الخلفي، وكم آسى حينما يخطر لي أن شخصاً بائساً، تعليمه أقل من المتوسط سيكون أول من يلقاني وآخر من يودعني لدى زيارتي لأي دولة، كما أنه منوط بإنسان بقدر ضئيل من الملكات أن يؤثر سلباً في تصوراتنا عن تلك الدولة.
فعلى سبيل المثال، أذكر أنه ما أن وصلت مع عائلتي لمطار مدينة تبليسي حتى فوجئنا أن موظف الجوازات يمنحنا قنينة «ويسكي» أثناء ختم الجوازات، فهالنا الأمر، على أن زوجي اعتذر للموظف، فاستدرك الأخير ووضع القنينة في صندوق بجانبه، ثم ركبنا السيارة الأجرة من المطار وما أن تبادل زوجي الحديث مع السائق حتى قام الأخير بفتح قنينة أخرى للنبيذ وعزم على زوجي الذي اعتذر شاكراً، فاعتقد السائق أن زوجي يتأفف من الشرب من الزجاجة ذاتها، فأخرج من أسفل الكرسي قرن ثور، وصب النبيذ بداخله ومنح زوجي قرن الثور ككأس ليرتوي، وعبثاً حاول زوجي أن يشرح له حقيقة أنه لا يحتسي الخمور لا في كأس ولا من قنينة ولا حتى في قرون الثيران، وقد صدمنا من إصرار السائق على سقي زوجي للجعة، حتى أنه صدمه بسؤال: أتخاف أن تحتسي الخمر أمام زوجتك؟!
فأومأ زوجي بالإيجاب مع ابتسامة عريضة ربما لينهي النقاش، لكن لاحقاً شرح لنا سائق أجرة آخر، أن من تقاليد أهل جورجيا إكرام الضيوف بصب النبيذ لهم في قرون الثيران، كما نكرمهم هنا في الخليج بالقهوة في الدلال.
قبل السفر للبنان، أعطاني بعض الأصدقاء رقم «سائق معرفة»، رغم عدم ترحيبي بفكرة الاتصال بسائق معرفة خشية تأثيره على رحلتي بفرض الكثير من الأمور تحت بند الناصح الأمين، هذا عدا الثرثرة ثم المزيد من أرطال الثرثرة التي تسيطر على شخصيات السائقين.
ولن أنسى أن «بسّام» السائق الذي صاحبني وزوجي طوال رحلة سابقة، قد أفتى بأنه لا ضرورة لزيارة شمال لبنان بدعوة أن «ما فيه شيء سوى شوية أرزات!».
ولأننا صدقنا البسّام، فقد طفنا لبنان بأسره صيداه، زحلاه، صوره، قلاعه، بقاعه، سهوله، أنهاره، جباله، مغاراته، جونياه، حريصاه وجعيطاه، لكنا لم نقترب من عتبات الشمال كوننا وقعنا فريسة لسائق استغفلنا، فضيع علينا أجمل معلم من معالم لبنان ورموزه وهو «الأرز».
وصلت مطار رفيق الحريري عصراً، كان أمامي خيار أن ألجأ لأي سائق آخر وعدم الاتصال بمحمد، لكني وجدت ذلك عملاً غير أخلاقي بالمرة، وكم وددت ألا يأتي السائق فيكون اللاأخلاقي منه لا مني.
بمجرد خروجي من الباب وجدت محمداً بانتظاري، وما أن جلست بالمقعد الخلفي حتى صبّ عليّ وابلاً من الأسئلة، عن سبب الزيارة ومدتها وعما إن كان لديّ معارف بلبنان، وكم وددت لو سكت قليلاً لتتاح لي فرصة تأمل طبيعة بيروت، فماذا يوجد أجمل في الكون من الجلوس خلف نافذة سيارة وتحديق النظر في الطبيعة، في همرة مطر، في الاستماع لزقزقة العصافير وشمس الأصيل تدفء وجنتك وطيف أحبابك يحيط بخيالك ويلامس قلبك.
لم يجد السائق مني تجاوباً أو رداً على وابل أسئلته ففتح المذياع وإذ بجارة القمر تشدو «زهرة المدائن».. وإذ بي اكتب:
رائحة البارود تخترق أنفي
وقدسي متدرع قلبي
ودم الشهيد، شهيد لكون صدري
صار حليقاً من الغفران
كاتبة مصرية

بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
09/12/2017
5034