+ A
A -
توفي في سبتمبر الماضي في شيكاغو بالولايات المتحدة ريتشارد غريغوري عن عمر يناهز 84 عاماً.
عندما كان في التاسعة، كان يعمل ماسح أحذية في شوارع شيكاغو. ويقول في مذكراته انه تعرّض للضرب وكُسرت أسنانه على يد رجل أبيض عندما كان يمسح حذاء زوجة ذلك الرجل، وذلك لأنه لمس بالخطأ رجلها، ولكن في عام 1967 ترشح لمنصب محافظ مدينة شيكاغو، وفي عام 1968 ترشح للرئاسة الأميركية الأولى.
تروي قصة ريتشارد معاناة الرجل الأميركي الأسود –المتحدر من أصول افريقية- في ظل النظام العنصري، وتروي في الوقت ذاته كيف تحدى هذا الرجل الأسود النظام والمجتمع العنصري حتى وصل باراك أوباما –وهو واحد منهم- إلى الرئاسة الأولى، وأُعيد انتخابه لمرة ثانية. ولعل ارتفاع موجة التطرف العنصري من جديد أثناء ترشح دونالد ترامب، وبعد انتخابه رئيساً يعكس رد الفعل على تغيير لم يلقَ قبولاً من المتطرفين البيض الانكلو- ساكسون حتى الآن.
عاش غريغوري في عائلة فقيرة للغاية. ولكنه تعلّم من والدته حكمة تقول: «ان الضحك هو افضل من البكاء في مواجهة المحن والمآسي، وأن من يضحك معك لا يمكن أن يضحك عليك».
وهكذا مارس مهنة التمثيل الفكاهي حتى أصبح من كبار المشاهير. وهو في طريقه إلى الشهرة واجه مشكلة لون بشرته السوداء. كانت التقاليد في المقابلات التليفزيونية الأميركية إجراء المقابلة مع الرجل الأبيض وهو يجلس في مواجهة المذيع المستجوب. أما الرجل الأسود فيجري استجوابه وهو واقف. رفض غريغوري الامتثال لهذا التقليد، وتمرد عليه. ولكنه ما كان ليستطيع ان يفعل ذلك إلا بعد أن طبقت شهرته الآفاق.
وفي احدى المقابلات التليفزيونية روى القصة التالية:
قال انه اثناء وجوده في أحد المطاعم رفضت النادلة خدمته وقالت له: نحن لا نخدم الملونين (السود). فرد عليها قائلاً: «حسناً.. ولكن.. أنا لا آكل الناس الملونين.. اعطني دجاجة مشوية».
هنا تدخل ثلاثة رجال بيض من حركة ك.ك.ك. العنصرية المتطرفة وقالوا له: اننا ننذرك بمغادرة المطعم فوراً وإلا.. فإن أي شيء تفعله مع هذه الدجاجة المشوية سوف نفعله معك!
فما كان منه إلا أن قبّل الدجاجة!!
احترف العمل الكوميدي حتى اصبحت محطات التلفزة تتهافت على التعاقد معه وأصبح من كبار الأثرياء (عزاً بعد فاقة). ولكنه لم ينم على تلك الثروة، إذ انه وظفها في حركة مقاومة التمييز العنصري التي انضم اليها.
كان يعتقد انه وسط غابة التمييز العنصري المظلمة والظالمة كان بالإمكان دائماً رؤية الشمس، ولكن كان من الصعب معرفة ما إذا كانت شمس التمييز العنصري في حالة غروب أو في حالة شروق!!
وبالفعل فإن انتخاب أوباما لدورتين رئاسيتين أوحى بأن شمس التمييز في حالة غروب.. إلا ان انتخاب ترامب من بعده مباشرة أوحى بالعكس تماماً.
وكان يدرك ايضاً كما ردد في مذكراته «ان الكوميديا قادرة على معالجة داء العنصرية بقدر ما هي قادرة على معالجة داء السرطان». وكأنه يحكم على المجتمع الأميركي بأنه غير قابل للشفاء من مرض العنصرية.
ومن خلال عمله في منظمات مكافحة التمييز وقف على ما يعتقد انه اسرار خطيرة، فسجلها في كتاب ضمنه وثائق تتهم المخابرات الداخلية الأميركية «أف.بي.آي.» بتدبير عملية اغتيال مارتن لوثر كينغ بطل حركة مقاومة التمييز في الولايات المتحدة.
وذهب في كتابه إلى أبعد من ذلك عندما اتهم العملية الإرهابية التي استهدفت مركز التجارة العالمي في نيويورك 11 سبتمبر 2001 بأنها كانت من تدبير المخابرات أيضاً.. وقد صدرت مؤلفات عديدة بعد ذلك في أوروبا، وحتى في الولايات المتحدة ايضاً، تردد هذا الاعتقاد وتحاول تأكيده، وهو ما تنفيه الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ذلك الوقت.
تعلّم غريغوري ان المعاناة من جراء التمييز العنصري لا تقتصر على السود وحدهم، ولذلك تضامن مع حركات الاحتجاج التي قام بها الهنود الأحمر – السكان الاصليون لأميركا – مطالبين بحقوقهم الانسانية والوطنية. وتضامن مع حركة رفض الحرب في فيتنام مع الملاكم العالمي الراحل محمد علي كلاي.
تختصر حياة ريتشارد غريغوري مأساة الأميركيين المتحدرين من أصول افريقية سواء في معاناتهم أو في مواجهتهم لهذه المعاناة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم.
وتبدو هذه المعاناة وكأنها ملحمة من فصول عديدة.. ولكن من دون نهاية في الأفق.. حتى الآن!

بقلم : محمد السماك
copy short url   نسخ
21/12/2017
2536