+ A
A -
مرات تُمطرنا الدنيا آهات لهول ما تَصدمنا به في معرض اكتشافنا للحياة بعيون لا تُحسن التقاطَ الجميل فقط، ومرات يَكفي أن تَنتشل منك الحياة بارقة الضوء لتعفيك مِن شرّ مشاهَدات تَجعلك تُرهِق إحساسَك باللامعنى وبعبثية المحيط المائع والعائم في ما لا نهاية له من قسوة وشهوة تَفرض عليك الموتَ عنوة.
سَفَر شعري، نَستأنفه بمجداف العراقي الفيّاض الإحساس بدر شاكر السياب، يَستدرجنا إلى الغوص في أعماق بحر النفس الإنسانية التي يَسرق منها ضبابُ الوقت شعلةَ الضوء الجاثمة خَلْفَ حجاب العين.
تَثور ثورة المنبطحين تحت القبور، تَشتعل دواخلك، السلام الروحي يَسقط، ورَحى الحرب النفسية الأَمَّارة بالطحن والطحن والطحن تَأكل الأخضر واليابس من آمالك الزاحفة فوق جِسر آلامك..
ما هذا؟!
ليس أكثر مِن مَشهَد يَتكرر مع كل هبوب لعاصفة الفقر، الفقر باعتباره صِناعة محلِّية يُرَوِّجُ لها الضميرُ الميِّتُ الذي لا يَحسب حسابا لوسادةٍ من البديهي أن تَجلدَك جَلْدا إن كنتَ من سكان مدينة الإحساس.
في زمن تَختلس فيه الأنفاس، في زمن يَهوي بالناس إلى مُستنقَع الظلام والعقول نِيام، جَرِّبْ أن تَشعرَ بما تَشعر به نفس ضائعة بين تمزقات الذات وتشظيات الروح، إنها نفس حُبلى بالرغبة في الانعتاق من جبروت قيد اللحظة العاصفة بها عصف الرمال..
ما النفس سوى المومس العمياء التي تَكتب ملحمتَها بعينين مغمضتين، وما الرمال سوى الطريق الذي يَقود إلى جبال الحياة التي لا تَعِدُ بوصول آمِن..
فهل ستَجِدكَ تَقول ما قالت العمياء:
«لو أستطيع قتلتُ نفسي.. همسة خنقَتْ صداها
أخرى تُوسوس: والجحيم؟ أتصبرين على لظاها؟» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء)؟
قد يَسهل عليك أن تَتخيل ما قالته المومس العمياء في لحظات انكسار يَصعب فيها اتخاذ قرار، لكن سيَصعب عليك يقينا أن تُجرب مرة أخرى أن تَضَعَ نفسَك مكان المومس تلك التي اتخذها بدر شاكر السياب حالة يَنقل عبرها وجها من وجوه الصراع بين الواقع والسلطة..
حِذاء السلطة يُصور لنا السياب جَليا كيف يَدوس كرامةَ المواطِن الذي يؤنثه من باب ترجمة انعدام الحِسّ الإنساني البعيد عن مدار نَصّ العدالة الغائب..
الأنثى، والنموذج مومس السياب، جرَّة مُحطَّمة. الأنثى ذليلة في عالم تَسكنه الرذيلة، عالَم يتحول سكانُه إلى مَصَّاصِي دِماء يَنهشون أجساد النساء اللواتي يُشَيِّئُهنّ البغاء..
«حتى اسمها فقدَتْه واستترَتْ بآخَر مستعار
هي منذ أن عميت «صباح»
فأيّ سخرية مريره
أين الصباح من الظلام تعيش فيه بلا نهار
وبلا كواكب أو شموع أو كوى وبدون نار؟»(بدر شاكر السياب، المومس العمياء)؟
أفليس من غريب الصدف أن تَكْذِبَ المومس العمياء على نفسها وتُصَدِّقَ أن مساء العمى والذبول سيُبَشِّر بصباح تُؤَثِّثُه ورود سيّد الفصول؟!
البغاء في قصيدة السياب لَعْنَة تَجعل من الواقع الكبير بآلام كائناته سوقَ نخاسة تُستعبَد فيها النساء.. لكن النساء على شاكلة المومس العمياء ليس في توظيفهن أكثر من رمزية للإحالة على واقع الضعف البعيد عن شاطئ التمرد..
فما لا يختلف فيه اثنان هو أن التمرد والعصيان يسمحان بالاغتسال من الذل والتخلص من وصمة العار، ولا شك في أن السياب كان ذكياً عندما أوحى لنا بأن مومسه تُجَسِّد معنى الضعف الذي يلتقي فيه معها الرجال، أولئك الذين وجدوا نُفوسَهم بين مطرقة السلطة الساكتة عن الحق وسندان الظروف التي تُجْبِرُكَ على أن تَتَدحرج ككرة الثلج وتَستسلم للأمر الواقع كما يَستسلم فأرُ التجارب..
الليل كأس يتأهب لها العابرون، الليل وافد قديم جديد يَجُرّ أذيالَ الانتظار، الليل نظارات سوداء تُضْمِرُ عمى عيون المدينة:
«قابيل» أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينةْ، والليل زاد لها عماها» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء).
وهل مِن عَمى أكثر مِن دُمى متحركة تَضلّ طريقَها إلى صومعة الإنسانية، دمى بائعات الهوى والمومسات اللواتي يَضبطهن التاريخ متلبسات بجريمة التمرد على الحياة، الحياة الطبيعية التي تَستكثر نفسَها عليهن؟!..
بطلة القصيدة الطويلة لبدر شاكر السياب قِطعة ثلج، هكذا يُصَوِّرُها لنا الشاعر بَعد شيخوخة المشاعِر، تتراءى لنا هي في صورة قلعة منسية زَهد فيها الفاتحون، لكن طُلاَّبَ مقبرة الحياة يَرون ما لا تَراه العيون..
وهل من حياة ترجى في حضن امرأة غابت عنها الحياة؟!
إنه الرغيف، الرغيف الهارب بعيدا عن فَمٍ يُناديه ويستجديه..
والثمن؟!
إنه غابة صفراء في موسم ذبول الجسد:
«إن لم تضاجعها وصدَّ سواك عنها معرضين
فكيف تحيا؟ وهي مثلك لا تعيش بلا طعام؟» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء).
الذئاب البشرية تُساوم اللحومَ البيضاء التي زهدت فيها الفضيلة، وقادتها إلى حتفها مدينةُ الرذيلة، والنساء في زمن السقوط سِلع تُباع وبضاعة رخيصة..
النساء العابرات لليل الشهوات تَقذف بهن حممُ واقعٍ يَغلي كالبركان في فَم الثعبان.. تَستعد الواحدة منهن لحتفها في صمت وشمعتُها تقارب الخفوت، لكنها لا تموت:«هي لن تموت
سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء).
كأنها على موعد مع اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة، هي ووجوهها الأخرى المترامية على امتداد ما تَبَقَّى من هياكل أجساد واهية كانت تَحمل إلى حدود الأمس القريب اسمَ سيِّدة واسمَ فتاة..:
«وكأن ألحاظ البغايا
إبر تسل بها خيوط من وشائع في الحنايا
وتظل تنسج بينهن وبين حشد العابرين
شيئا كبين العنكبوت يخضه الحقد الدفين
حقد سيعصف بالرجال» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء).
المدينة كَفّ ممتدة من قلب البلاد، والليل جلاَّد يَعصف ببغايا دِينُهنّ الانقياد، في غياب أدنى حَقّ يُذَكِّرُهُنَّ بتاريخ البطولة الإنسانية..
أهناك معنى للإنسان يَظَلُّ باقيا في مدينة لا تَختلف عن علبة ليل تترنح فيها أجساد فتيات ذابلات تحت وطأة الاحتراق بإحساسهن الذي يُصَيِّرُهُنَّ حطبَ جهنم الشهوة الملعونة والعشق الممنوع؟!
«وعلى الشفاه أو الجبين
تترنح البسمات والأصباغ ثكلى، باكيات
متعثرات بالعيون وبالخطى والقهقهات» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء).
الأصباغ تزول، والليل يَطول، لكن كِتابَ الحزن يَقول فصله الواحد ما يقوله غيره من الفصول.. لا معنى للحياة تحت قُبَّة عاصفة مُزْمِنَة تَكبر معها الغصّةُ في حلق المعذَّبين، ويتلاشى معها كل معنى للمكان وللإنسان المسكين..
أَمَا مِن ثورة للسان حتى لا يُقبِرَ الحقيقةَ النسيان؟!
تلك حقيقة الكرامة والكبرياء والخبز والعِرض يوم كان للعِرض معنى وهوية، هوية تَنأى به عن أن يَلقى ما لَقِيَتْهُ المومس مِن مصير:
«هذا الذي يأبى عليها مشتر أن يشتريه
قد كان عرضا يوم كان ككل أعراض النساء» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء).
فمتى بحقٍّ يُوصَد بابُ الاختيار الْمُرّ الذي يَفرضه الواقع المرير على قطعة من قلب الإنسانية النازف جراحا تجري جريان النهر؟!
لن نُكَرِّرَ ما قاله السياب:«الباب أوصد
ذاك ليل مُرّ
فانتظري سواه» (بدر شاكر السياب، المومس العمياء)..
لن تُفَكِّرَ في البحث عن طريقة لطمس معالم الجريمة، جريمة قتل الإنسانية تحت أكثر من مُسَمَّى، لكنك ستَتُوق حتما إلى الانتصار على اللحظة الفاجرة بإعلان المصالَحة أولا مع نفسك قبل أن تخطو خطوة واحدة أو اثنتين على طريق كسر طبول الحرب التي يخوضها الآخَر ضِدّك دون أن يُمْهِلَكَ فرصةً لتغيير الواقع، الواقع الذي لن يَكفر طويلا بنِداء السلام..

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
30/12/2017
2709