+ A
A -

الحياة نَبيذ هيَ..
الحياة برقوقة شهية..
الحياة فاكهة حُبٍّ يُسَوِّل لك عقلُك أن تُلْقِيَ عليها القبضَ بأطراف أصابعك بعد أن يَسيل لها لعابُ رغبتك في اعتصارها خلف بوابة شفتيك..
الحياة تُغريك بكؤوس تُنسيكَ وجودَك، لكن يَغيب عنك أن مِن بَني طينتك مَن غادَرَتْهُ الحياةُ مهما بَدَتْ لك قدماه واقفتين على أرضها..
لن تَنأى بتفكيرك بعيدا عن مدار الترقب، ففي حقيبة ألوان صاحبنا بابلو بيكاسو PABLO PICASSO لون واحد يَكتب سيرةَ البؤس ويَروي حكاية الشجَن، إنه اللون الأزرق..
اللون الأزرق الذي وَسَمَ مرحلةً مهمة من حياة بابلو هو اللون نفسه الذي ساعد على ولادة لوحة «عازف القيثارة الْمُسِنّ»..
وما تكون اللوحة؟!
إنها عنوان فترة حَرِجَة عاشها بابلو بأجنحة روح لا تُحسِن الطيران، روح مقيَّدة هائمة في سماوات حياة ملبَّدة، ملبدة بغيوم الظروف الصعبة التي تَحكم المرءَ حين لا يقوى على أن يَحكم نفسَه..
رَسَّامُنا الإسباني بابلو يُتَرْجِمُ على نمط التشكيل الفني مأساةَ صَدْمَتِه في حياة عاجزة عن أن تُسايِرَ تَدَفُّقَ آماله المحطَّمة، كيف لا وآمالُه تَسقط تباعا عند رصيف الخيبة..
خيبة بابلو في واقع لم يَرْقَ إلى مستوى تطلعات صاحبنا جَعَلَتْ طموحَه يَضيقُ وأفق رؤيته للعالَم يَضيق بالْمِثل.. لهذا أطلق الرسام والفنان التشكيلي العنان للون البحر والسماء كي يُعَبِّرَ به عن غير دلالات الصفاء..
الزرقة، كما تَعكسها المرحلة الزرقاء من عمر بابلو بيكاسو الفني، تَستدرجك إلى مستنقع الحياة مع وقف التنفيذ، وكأن المساحات الزرقاء التي يُؤَثِّثُها بابلو بأبطاله من شخصيات ورموز تَشي بانحباس الأوكسيجين..
جَرِّبْ أن يَنْحَبِسَ الأوكسيجين في جسمك لِتَقرأ للتو كتابةً زرقاء تَقول شيئا واحدا: إنه موعدك مع الموت..
اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة يُشَكِّلُها بابلو تشكيلا فنيا متكئا على قوة اللون. الزُّرْقَة الذي يَطيب لأهل الاختصاص من الباحثين في علم النفس والسيميائيات أن يُعَمِّقُوا دلالتَه الباعثة على الاسترخاء وتَحسين المزاج ومحارَبة الاكتئاب..
لكن هل لنا أن نَتَّفِقَ على أن مدلولَ اللون لا تَتَقَلَّب أحوال جَوِّه؟!
من المؤكد يا صديقي أن تُساعِدَكَ لوحة حائطية مثلا على تعديل مزاجك والتخفيف من حِدَّة الضغوط الْمُمارَسة عليك، تلك التي تَفعل بك ما يَفعَلُه السِّحر، لكن يَقينا تَبقى للون حمولات دلالية أخرى..
الشفاه الزرقاء مثلا ألا نرى كيف تُلْهِبُها السيجارة؟!
فهل يمكن أن نُصَدِّقَ أن زُرقةَ الشفاه مُؤَشِّر يَقف عند مُعْطَى الصحة والسلامة؟!
طبعا لا..
هل يُمْكِن أن نُصَدِّقَ أن للون الكدمات والبقع الزرقاء التي تتصاعد كالدخان على امتداد الجسد دلالةً غير دلالة الموت الذي يتسلَّل إليك؟!
ألا يَقود نقص الأوكسيجين بشدة إلى أن هذا أو ذاك تَكاد تُغادِرُه الروح؟!
هكذا تتمدد أول قطرة تُفارق حضن صنبور الأسئلة:
«أين تركتُ فمي؟!»..
«أينَ أضعْتُ صرختي؟!»..
في زحمة طريق الضياع لا نَدري مَن مِنَّا أضاع الآخَرَ: أهو الفَم الذي أضاع صرخَتَه؟! أم هي الصرخة التي أضاعَتْ فَمَها؟!..
لِنَقل إنها صرخة زرقاء، صرخة عابرة لحدود الهواء..
أنامل الفنان بابلو بيكاسو تتأهب لِنَقْل مشهَد الموت، الموت الذي ينال من فُجور الحياة العابثة بمصير كل صاحِبِ قلبٍ يُعلن العصيان متمردا على نية الموت..
الموت شيء مرفوض، لكنه قضاء وقدَر مفروض، لماذا؟ لأن الموت في حالة بطل لوحة بيكاسو «عازف القيثارة الْمُسِنّ» يُجسِّدُ واقعا لا هروبَ منه، إنه واقع هَرِمَت فيه الروح التواقة إلى وَصل زمن الصِّبا..
شيخوخة، أُفُق أزرق، وقيثارة حزينة تَكتب نَغَمَها بلون البؤس والألم.. هذه باختصار هي الحدود التي يَرسمها بابلو بيكاسو، وما أن يَنتهي من تجسيد اللوحة حتى تَتَثاءبَ أصابعه مُعلنة الانتصارَ على اللحظة..
بين الشيخوخة والصِّبا ما بين عازف القيثارة وأحلام بابلو التي لا تَخرج عن الجرة المحطَّمة، ومتى؟! يوم أصبح الحُلم كذبة كبيرة من الحكمة أن تُصَدِّقَها الروحُ الأمارة بأكثر مِن تنازل تقدمه إن هي اسْتَحْلَت المضي إلى المجهول الذي يَستكثر عليها أبوابَ الحظ، بما في ذلك الباب الضيق..
مرحلة التشكيل الأزرق التي تَرَتَّبَ عنها ميلاد لوحة «عازف القيثارة المسِنّ» تزامنَتْ مع موت واحد من الْمُقَرَّبين جدا من بابلو، إنه صديقه كاساجيماس الذي قتلَتْه الظروف القاهرة، وهو ما دفع بابلو دفعا ليُطارد ذكرى صديقه البائس في مرايا وجوه مَن بَعثرَتْهم تجربة القَدَر الْمُرّ الذي عَلَّقَهم على مشارف أبواب الحياة دون أن يَلِجُوها إلا من النافذة..
نافذة حياة المهمَّشين والمعذَّبين منها تَسَلَّلَ بابلو بيكاسو إلى روح كاساجيماس ليَشرب نخبَ رحيله كأسَ الفقدان القاتلة ببطء..
بابلو بيكاسو نُسخة من كاساجيماس الذي وضع حدا لحياته هروبا من فُرْصَة وجود لم يُشَجِّعْه على طَرق أبواب أخرى للحياة المستعصية.. وكاساجيماس تَرْجَمَهُ بابلو ترجمة فنية في صورة ملامح عازِف القيثارة المسن الذي ألقى به بابلو في أعماق البحر الأزرق، وما أدراك ما يَكونُه بحرُ العذاب!
شيخوخة عازف القيثارة ما هي في حقيقتها سوى رمز لتجسيد شيخوخة الرغبة في الفِعل، شيخوخة إرادة تحدي الظروف القاتلة لمعنى وجود الإنسان، شيخوخة الإحساس بالحياة الذي لا يُوازيه إلا إحساس شيخ أعيَتْهُ التجارب وفَعَلَتْ به ما تَفعل القذيفةُ بالمحارِب..
الكتابة الرمزية لمشهَد شيخوخة المواقف والأفكار والرُّؤى وآفاق الانتظار وسِوى ذلك، كل هذا عَبَّرَ عنه بابلو في موقف الرجُل المسن الذي أعْمَتْهُ التجربةُ المريرة والقاسية عن رؤية وجه الحياة المثالية..
أما القيثارة التي تُقاسِمَ الرجل المسِنّ البطولةَ، فهي لا تَخرج عن اللحن الحزين الذي تَعزفه الحياة بظروفها العصيبة لأمثال هذا الرجُل من الأحياء العُزَّل الذين فَقَدُوا في الطريق إلى الحياة أمتعتَهم، وبالْمِثل فَقَدُوا أسلحَتَهم التي يُقاومون بها إكراهات الحياة..
بأَيّ روح متعَبة يمكن لِمَن قَصْقَصَت تجارب الحياة أجنحة أصابعه أن يَعزف لحنا سعيدا وهذه الحياة الغاضبة تُقْسِمُ ألا تُسَلِّمَه نَفْسَها، بل أكثر من ذلك تَحلف الحياة ألا تَعودَ إلا لتنال من قدرته على المقاوَمَة، وهو ما يُجسده جليا الوضع الجسدي الذي يُحدد مكامنَ العجز والانكسار في جسم رَجُل منهارالعازف المسن (..
الانكسار يَقول ويَقول، والمحاوَلَة ضربٌ من السراب الذي لا يُغني من ظمإ، والإبقاء على الوضعية حالة مستعصية يَستحيل معها الوصول إلى مُدن الراحة والسلام النفسي..
هذا ما يَقوله نَسق العلامات التي تُظهر العازفَ المسن في وضعية جلوس خارج التصنيف وكأن الرجُلَ فَقَدَ التوازنَ المريح لذاته تماشيا مع انحسار ماء الإحساس بالحياة التي لم تَعُد تُرضي مَن عانوا من شظفها وتجرعوا كأسها الْمُرَّة وكَفَّنَهم فقرُها المدقع..
العجز، قلة الحيلة، تَحَطُّم جسور السلام، دينامية العبث، هذه وغيرها محاور يَكتبها بابلو بيكاسو بلغة الرسم والتشكيل لِيُعَبِّرَ عن صَرح يؤول إلى السقوط، صَرح الإنسانية اللافظة لأنفاسها في ظِلّ ذَيْل من الإحباط الذي تَطلع الروحُ )روحك ( ولا تطلع روحه، وكأنه تواطأ مع الزمن ضدك..
نَمْ قريرَ العين يا بابلو، فثمة تُحفة فنية تحدِّثُ التاريخَ عنكَ وتَحلف بموهبتك وقدرتك على معانقة روح المعذَّبين وتصوير الجمال الفني بحلوه ومُرّه لِتَبلغ به معارجَ اللذة الفنية التي تَليق بنا..
كل لوحة وأنتَ سَيِّد الإحساس بِمَن يُشبهُهم عازفُك في غير زمن الشيخوخة الحقيقي.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
13/01/2018
3036