+ A
A -
زمن حمى الانقلابات التي سادت المنطقة العربية ودول العالم الثالث عموماً، كان العسكريون يتسابقون للسيطرة على الإذاعة الرسمية لإعلان البيان الأول. وعرفت المنطقة طوفاناً من البيانات الأولى المصحوبة بموسيقى عسكرية وكلمات حماسية تبشر بالحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية. وظلت الدولة بأجهزتها الرسمية تحتكر الفضاء الإعلامي عبر الإذاعة ثم أضيفت إليها التليفزيونات الرسمية باعتبارها النافذة الوحيدة التي يتواصل بها الحاكم مع شعبه بصورة عمودية حيث تأتي الخطابات المطوّلة المليئة بالكلمات القوية الحماسية والخالية من المعنى عموماً.
ولم يكن الأمر اختراعاً عربياً صرفاً، فالدول الغربية استخدمت الإذاعة قبل الحرب العالمية الثانية لتسويق سياساتها، حيث كان القسم العربي لإذاعة برلين نافذة يطل منها النظام النازي على المنطقة العربية للدعاية لنفسه لتقابله من الضفة الأخرى لبحر المانش أو القنال الانجليزي إذاعة لندن بقسمها العربي الشهير الذي استمر لعقود، لدى فئات كثيرة من الشعوب العربية، مصدراً موثوقاً للمعلومات في ظل الدعايات والأخبار المشكوك فيها التي كانت تبثها الإذاعات العربية الرسمية ولسنا بحاجة للتذكير بالنموذج الدعائي المعروف للمذيع أحمد سعيد وصوت العرب زمن الناصرية.
ومع تسارع التحولات التقنية وبشائر ثورة الاتصالات بدأ المشهد الإعلامي العربي يتخذ سمات جديدة خاصة مع ظهور أدوات البث الفضائي. ورغم استمرار الدفق الدعائي الرسمي عبر الأجهزة الإعلامية الرسمية التي تحولت إلى فضائيات إلا أن المجال الفضائي أصبح أوسع من أن تحتكره التوجهات الرسمية وشكل ظهور قناة الجزيرة الفضائية لحظة فارقة لمن يريد أن يرصد التحولات الكبرى في المجال الإعلامي العربي، فلأول مرة سيشاهد المواطن العربي وجوهاً من المعارضة السياسية ومثقفين من خارج السياق الرسمي يطلون على الناس عبر برامج قناة الجزيرة، الأمر الذي شكل تحدياً فعلياً للأنظمة الرسمية التي وجدت نفسها مطالبة بتطوير أدائها ولكن ضمن ظروف محددة جداً يرسم حدودها الحكام والأجهزة الرسمية العربية، ورغم ذلك كان الدفق الإعلامي المستمر قد لعب دوره الكبير في تغيير الأذهان لجيل كامل من المتابعين العرب الذين تحولوا إلى متابعين لقنوات أكثر موضوعية وعلى رأسها قناة الجزيرة.
ومع بدء العشرية الأولى للقرن الواحد والعشرين كانت ثورة الاتصالات قد اتخذت سياقاً آخر أشد تأثيراً مع ظهور الأجهزة المحمولة وانتشار الإنترنت وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي فتح المجال للأفراد والجماعات للتواصل وخلَقَ إعلاماً شعبياً مستقلاً عن الإعلام الرسمي الفاقد لشروط الحرية والموضوعية. ومع انفتاح الفضاء السيبراني على تعددية الآراء والأفكار أصبحت القضايا الخاضعة للمنع والقمع مجالاً للنقاش الحر بين الأفراد العرب الذين عانوا القمع طيلة عقود ماضية.
لم يكن غريباً في ظل هذه التحولات التقنية العميقة أن تظهر أولى بشائر الثورات العربية، فالمواطن العربي الذي تابع أحداث سبتمبر 2001 ثم غزو أفغانستان واحتلال بغداد عبر نقل مباشر وشاهد وقائع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عبر شاشات فضائية على رأسها الجزيرة أصبح أكثر وعياً بمنظومة الحقوق والحريات وأكثر انتقاداً لأشكال الاستبداد وأقل اقتناعاً بما تقدمه القنوات الإعلامية الرسمية.
لذا لم يكن غريباً أن تكون الثورة التونسية باعتبارها فاتحة التحولات السياسية في المنطقة في جوهرها حراكاً مجتمعياً استفاد من الثورة الإعلامية، حيث تولى الناشطون نشر احتجاجاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيما تولت قناة الجزيرة الجزء الأهم في تغطية الأحداث وهو نفس ما سيحصل مع الثورات المصرية والليبية واليمنية والسورية المتتالية تاريخاً وأحداثاً.
لاحقاً تفطنت قوى الثورة المضادة وأنظمة الاستبداد إلى الدور المركزي الذي تلعبه أدوات التواصل الاجتماعي وقنوات الإعلام الحرة وعوضاً أن تسعى إلى فتح المجال أمام الشعوب للتعبير انتقلت إلى مرحلة التضييق وصناعة الجيوش الإلكترونية التابعة للسلطة وانتهت بالضغط على قناة الجزيرة والمطالبة بإغلاقها. ورغم أن رد فعل الثورة المضادة استطاع التأثير في المشهد العام عبر نشر الأكاذيب وترويج الدعايات وقمع الناشطين غير أنه من الأكيد أن كوّة الحرية التي انفتحت أمام الشعوب أصبح من المستحيل السيطرة عليها فقد خرج المارد من القمقم.

بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
13/02/2018
3956