+ A
A -
يقولُ ماثيو ماكونهي: الشهادة ورقة تُثبت أنك متعلم، ولكنها أبداً لا تثبتُ أنك تفهم!
ولو أن ماثيو ماكونهي يعرفُ جدتي رحمها الله، لقلتُ أنه لطَشَ قوله من مقولتها الشهيرة: «الفهم فضلوه على العلم»! ولكنه لا يعرفها ولا تعرفه، وما ضرَّ أحدُهما أن لا يعرف الآخر... وكثير مما يعرفه الناس يندرجُ تحت باب علم لا ينفع وجهل لا يضر! وتبقى الحياة أكبر مدرسة، وقول جدتي ذو المعنى البليغ والكلمات القليلة تعلمَتْه من الحياة ولم تأخذه عن عبدالقاهر الجرجاني الذي قال: البلاغة هي الإيجاز! فهو الآخر لا يعرفها ولا تعرفه!
وعلى سيرة الشَّهادات ناقشتُ البارحة أطروحتي في الدكتوراه، والمناقشة لمن لم يشهدها من قبل، هي جلسة علمية يمسحُ فيها الأساتذة المناقِشُون الأرض بالطالب ثم يدخلون إلى غرفة خاصة بهم ويتداولون فيما بينهم ليخرجوا بعدها ويمنحوه تقدير جيد جداً! ومسح الأرض بحضرتك لا علاقة له بما كتبتَه أو بما لم تكتبه، هو ركن من أركان الجلسة تماماً كالسجود في الصلاة تبطل بدونه!
وبالعودة إلى ماثيو وجدتي، لم يعد بإمكان أحد من سكان هذا الكوكب أن يُشكك أني متعلم! أما بخصوص أني أفهم فهذه مسألة لا يمكنني أنا شخصياً أن أجزم بها! فمذ قرأتُ قول الله تعالى «ففهمناها سليمان» عرفتُ أن الفهم لا يُدرك في بطون الكتب! ومذ عرفتُ كيف أدَّبَ أبوبكر المرتدين دون أن يحمل شهادة في العلوم السياسية أيقنتُ أن الحِنكة لا تُطلبُ في الجامعات! ومذ عرفتُ كيف حطّم عُمر بن الخطاب امبراطوريتيّ فارس والروم دون أن يحمل شهادةً في القانون الدولي أيقنتُ أن للأمر علاقة بما في الصدور لا بما في السطور! ومذ عرفتُ كيف وقف أحمد بن حنبل في وجه المأمون بينما انحنى آخرون لا يقلون عنه علماً عرفتُ أن الله يختار لأشرس معاركه أنقى جنوده!
لستُ أُقلل من قيمة الشهادات، معاذ الله، ولكني ضدَّ أن يكون الناس عُبَّاداً للألقاب، والبريستيج الفارغ، والتعالي الثقافي، لأني على يقين أن العِلم الذي لا يزيدُ صاحبه إلا تواضعاً هو جهل مقنع! وأكثر مرحلة علميّة اعتقدتُ فيها أني أعرفُ الكثير هي عندما كنتُ في الابتدائي! كنتُ أعتقدُ أني نابغة! وكنتُ كلما انتقلتُ من مرحلة إلى مرحلة اكتشفتُ مساحة جهلي! أما اليوم فأنا أجهل أهل الأرض إن لم تدركني «ففهمناها سُليمان»، فاللهم أصْلِح لي قلبي!
بقي نُقطة أخيرة لا أعرفُ كيف أُمهّدُ لها بشيءٍ من كلامي، فأتكِئُ على قول ابن عمّار الأندلسي:
ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ
لا يخفى على شريف علمكم أنَّ بعض الناس يضعون حرف الدال قبل أسمائهم من باب الفشخرة الفارغة، وأنك حين تتعرف عليه عن قرب تعتقد أن حرف الدال اختصار لكلمة دُب لا لكلمة دكتور! أعرفُ دكتوراً لو طلبَ فاتورة من البقالة اشترط على صاحب البقالة أن يضع حرف الدال قبل اسمه! كما أن بعض الناس يضعونها وهم يستحقونها فعلاً، علماً وأدباً وأخلاقاً، وتبقى المسألة حرية شخصية، ولأنها كذلك فقد قررتُ أن لا أضع حرف الدال قبل اسمي، لا على أغلفة كتبي، ولا مقالاتي في الصحيفة، ولا حساباتي في مواقع التواصل، وأرجو من كل من يعرفني أن لا يناديني «يا دكتور» فإنّ الله قد نهى عن التنابز بالألقاب! كذلك لن أجلس على منصة، أو أُلقى محاضرة إذا سبقني حرف الدال إليها، وأنتهز المناسبة لأشكر أكاديمية قلم في الكويت، تواصلوا معي لإعطاء محاضرات، واتفقنا على المواعيد والمضامين، ولكن عندما عرضوا عليَّ الإعلانات طلبتُ تغيرها لوجود حرف قبل اسمي، فتفهموا الأمر وأعادوا تصميمها مجدداً!
أرجوكم جميعاً، أن تحترموا رغبتي في هذا الأمر، وأن لا تضعوا حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
18/02/2018
6357