+ A
A -
قال الإمام الذهبي في رائعته الفكرية والأدبية والتاريخية والفقهية سير أعلام النبلاء:
كان زبيد اليامي الكوفي مؤذن مسجده، وكان يقول للصبيان: تعالوا فصلّوا معنا، أشتري لكم جوزًا!
فكان الأولاد إذا فرغوا من الصلاة تحلقوا حوله يأخذون ما وعدهم به.
فسئل يومًا عن ذلك، فقال: وما عليّ أن أشتري لهم جوزًا بخمسة دراهم ويعتادون الصلاة في المساجد!
والشيء بالشيء يُذكر، شهدتُ مرةً حادثة طريفة، كنتُ أصلي بجانب شيخٍ كبير في السّن، وفي الصف الذي أمامنا يصلي رجل وابنه الصغير، ولكن الصغير لم يحتمل الوقوف بجانب أبيه أكثر من ركعة، فسرعان ما تراجع وبدأ يركضُ بين الصف الذي نحن فيه والصف الذي فيه والده بسرعة كالعدائين في سباق المائة متر! وبطبيعة الحال أحدث ضجة كما هي حال الصغار... وعندما سلّم الإمام وسلمنا معه، قال الرجل المسن لوالد الطفل: المرة القادمة أحضر له سكوتر!
شخصيًا أنزعج كثيرًا إذا سمعتُ أحد المصلين يؤنبُ الأولاد في المسجد على ضجة أحدثوها، طبعًا أتفهم رغبة إنسان يريد أن يصلي في جو هادئ، فنحن والله المستعان قلما نخشع في هدوء فكيف في ضجة، ولكن وجهة نظري التي أقولها دائمًا إن هذا الصغير يحتمله صاحب محل الألعاب على علاته وضجيجه لأجل دراهم معدودة، ويداريه المدرب في النادي على عفرتته لأجل أنه مشترك، ويصبر عليه صاحب البقالة على شيطنته لأجل أنه زبون، فلماذا لا نحتمله نحن لأجل الله!
الأمر أبعد من صلاة واحدة، وحادثة يتيمة، الأمر يكمن في الأثر الذي نتركه في الأطفال حين ننهرهم، ولطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ كما يقول الشاعر، وعندما يجد الطفل لساناً حلوًا، وصبرًا طويلًا في أماكن خارج المسجد ولا يجدها في المسجد نكون نفرناه من المسجد من حيث لا ندري!
طبعًا لا أقول أن نترك الحبل على الغارب للأطفال في المساجد... مسؤولية الأب الذي يصحب ابنه معه للمسجد أن يعلمه آداب المساجد قبل الدخول إليها، وأن يحاول ضبطه قدر الإمكان إذا دخل، ولكن الأطفال هم الأطفال، لن يصبحوا رجالًا في لحظة إذا نهرناهم، ومسؤولية باقي المصلين أن يعلموا أن ضجيج الأولاد في المساجد أفضل من ضجيجهم في الشوارع والطرقات، وأننا إذا لم نحتملهم صغارًا في المساجد سنعاني منهم كبارًا في الحياة، فالمرء سرعان ما يتطبع بأخلاق الأماكن التي يرتادها، فلماذا يصبر الآخرون على الصغار لأجل جيوبهم، ولا نصبر نحن عليهم لأجل ديننا؟!
لطالما كانت المساجد مصانع الرجال، وإن لم يخرج الابن البار من المسجد فلن يخرج من مكان آخر، وإن لم يخرج الزوج الشهم المحب الكريم من المسجد فلن يخرج من مكان آخر، وإن لم يخرج التاجر الأمين، والجار الخلوق، والحرفي الصادق من المسجد فلن يخرجوا من مكان آخر، وأطفال اليوم هم أبناء الغد، وأزواج الغد، وجيران الغد، وتجار الغد، وحرفيو الغد، نحن حين نصبر على الصغار في المساجد، فلسنا نصنع اللحظة بل نصنع المستقبل، هذه السيقان الصغيرة التي تركض بين الصفوف، سيأتي يوم وتنتصب بانتظام عندما تُقام الصلاة، قليلًا من الصبر في جنب الله، والأجر على الله!
بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
04/03/2018
6504