+ A
A -
أعاد خطاب الأمة السنوي الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أجواء الحرب الباردة التي سادت في ستينيات القرن الماضي بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة واستمرت حتى نهاية الثمانينيات. اختلفت الظروف والشخصيات وتباعدت السنوات ومع ذلك عادت هذه الأجواء مجددا مع استعراض القوة الذي قدمه بوتين في هذا الخطاب.
خطاب بوتين وضع حدا للشكوك فيما إذا كانت العلاقات تشهد فعلا صورة جديدة من الحرب الباردة أم لا، وذلك عندما تحدث بلغة التحدي واستعرض مظاهر القوة المسلحة، ووجه هذا وذاك إلى الولايات المتحدة دون حرج، إضافة إلى كون الخطاب رسالة لعالم اليوم عما يحدد سياسة روسيا ودورها. وأخطر ما في مشهد الخطاب استعراض القوة التي وصفها بوتين بلسانه بأنها «القوة التي لا تقهر»، وتلك في حد ذاتها كانت من أبرز ملامح الحرب الباردة، أو على الأقل استدعاء أجواء مثل هذه الحرب.
تحدث بوتين عن قدرات بلاده العسكرية وامتلاكها لصواريخ استراتيجية متطورة قادرة على الرد على العدوان على روسيا أو أي من حلفائها ولا يمكن للأميركيين وقفها.. هي صواريخ لا تقهر على حد قوله. كما عرض لغواصات صغيرة وأخرى تعمل بالدفع النووي. واللافت أن الرجل كان يتحدث عن كل هذا القدر الرهيب من السلاح وخلفه شاشات للعرض توضح ذلك، ثم يلتفت للشاشات ويقول: ها أنا ذا!!.
على الفور ردت واشنطن، فقالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية: «هذا شيء لا نستمتع بمشاهدته بالتأكيد، إن الرئيس بوتين أكد بذلك ما كانت حكومة الولايات المتحدة تعرفه منذ فترة طويلة. واتهمت واشنطن موسكو بأنها بذلك تخرق قواعد القانون الدولي حول تطوير السلاح التقليدي والنووي. وردت موسكو سريعا أيضا بنفي هذا الاتهام وأكدت أنها ملتزمة بواجباتها الدولية.
وكلا التعليقين لا يغيران الحقائق الجديدة، فهناك فعلا سباق رهيب بين القطبين لإنتاج السلاح وتطويره وتصديره. وما فعلته روسيا فعلته الولايات المتحدة بكل تأكيد، بل هو اتجاه عام تزايدت وتيرته من جانب لكل الدول. وعودة سريعة إلى مسار مبيعات السلاح في العالم وفقا لتقارير معهد استكهولم لأبحاث السلام تشير إلى تزايد مبيعات السلاح خلال السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق.
من السهل تفهم هذا الاندفاع العالمي نحو تجارة السلاح. وهناك دائما نظريتان في هذا الصدد، إحداهما اقتصادية محضة جوهرها أن تجارة السلاح قاطرة لنمو الاقتصاد. وأما النظرية الأخرى فهي أمنية محضة وجوهرها أن السلاح ليس فقط ضرورة لرد أي عدوان، وإنما هو ردع مسبق لمنع وقوع العدوان، وهي النظرية الأكثر رواجا بالطبع.
وأيا كانت وجاهة كل نظرية، لا يمكن إغفال تأثير الأزمات السياسية الإقليمية، ولا الصراع أو التنافس بين القوى الدولية الكبرى على التحكم في مصير العالم. فكلاهما يدفع إلى إيجاد طلب متزايد على التسلح. ولا شك أن بوتين وهو يتفاخر بما أصبحت تمتلكه بلاده من صواريخ «لا يمكن إيقافها»، كان يضع في حساباته خلافاته مع الغرب في أوكرانيا واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم. ولا ننسى أن أهم ما قدم ترامب نفسه به للعالم هو أنه سيعمل جاهدا على بقاء التفوق العسكري الأميركي. ولو نظرنا إلى الشرق الأوسط بكل ما شهده ولايزال يشهده من حروب أهلية وعدم استقرار لتفهمنا الاندفاع المتزايد من دول المنطقة نحو امتلاك المزيد من السلاح. ومن المؤكد أن عرض بوتين لأحدث ما أنتجته الترسانة الروسية من السلاح هو موضع اهتمام بالغ من عديد دول المنطقة في المستقبل القريب، وخصوصا فيما يتعلق بالحصول على الصواريخ التي لا يمكن إيقافها على حد تعبيره.
نحن إذن أمام طبعة جديدة من سباق التسلح، ومعها تتزايد الدلائل على أن هناك استدعاء من جانب القطبين للحرب الباردة التي تختلف قطعا عن سابقتها من حيث الشكل، ولكنها تمتلك عناصر وقوعها، ويبقى السؤال مفتوحا بلا إجابة محددة عمن سيكونون ضحاياها في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. قلوبنا مع عالمنا العربي المكلوم بالهموم والخلافات ألا يكون من بين الضحايا.

بقلم : د. عبدالعاطي محمد
copy short url   نسخ
10/03/2018
2423