+ A
A -
أكثرُنا مهووس بأن يُعَلِّقَ الأشياءَ من الذهب إلى الفضة فاللوحات الفنية الموقعة باسم عباقرة التشكيليين، سواء الحقيقية منها أم المزيفة، مرورا بالدباديب البيضاء التي يَلذّ لنا أن نتأملها تَرقص رقصةَ العبث على حافة مرايانا الداخلية في أقبية السيارات أو تلك الوردية منها [لا الحمراء] التي تقف وقفةَ أبي الهول وسط مساحة الضوء المتوهج قريبا من المصابيح المستطيلة على جدران غُرَف نومنا.
غير أن شُطَّار الزمن الجميل من مجانين وادي عَبْقَر الجاري بين ضِفَّتَيْه نهرُ الشِّعر كانوا أذكى منا وأكثر إبداعا لما آثَرُوا أن يَتلذذوا بِمَشهَد آخَر بطلُهُ الحرفُ الْمُعَلَّق.
عن مُعَلَّقات الشعر الجاهلي نَضرب لأنفسنا موعدا لِنُعاين مسار صُنَّاع الفكرة على مشارف مدينة الحُلم الشعري الذي فَكَّروا هُم أنه يَليق بانتظارنا.
بين مَن تَفننوا في تفسير تسمية المعلقات على مقاس أمزجتهم، ومَن مالوا شيئا ما إلى إيهامنا بما لا يَقبل التصديق، ومَن اقتربوا إلى حدٍّ ما مِن الحقيقة، نَلتقط قِصةً تَقول إن أجمل ما قيل من شعر جاهلي اتخذوا منه قميصا ذهبيا ارتدته الكعبة قبل أن تُشرِقَ شمسُ الإسلام لِتُضِيءَ الدنيا.
أن يَرقى شِعرك إلى مستوى أن يُكْتَبَ بحروف من ذهب، على جدران الكعبة، لَهُوَ حُلم ما كان لِيُفارِق أحضانَ مخيلتك، في زمن سابق لم يكن فيه للكعبة شأنها اليوم.
بعيدا عن القصة تلك، لا أحد يُنكر أن مُعَلَّقات الشعر الجاهلي حملَتْ من معانيها ما تَنحني له مبانيها قبل أن يَنحني له الكثير من مُتَلَقِّيها. ولهذا بالذات مازالَت الْمُعَلَّقات أشهى ما اقتُطِفَ من عناقيد دالية الشعر العربي.
قميص الكعبة المعلق صَنَعه صُنَّاع الحَرف الذين لم يَغيبوا يوما عن ذاكرتنا الشعرية، لماذا؟! لأنهم جادوا فأجادوا، وبين جودهم بِوَصْلِ أرواحنا وإجادتهم لما جادوا به، مَهروا في أن يُصَيِّرُوا قصائدهم ثُرَيَّا مُعَلَّقة في سماء قلوبنا التي تَسمو بِسُمُوّ ذائقتهم الفنية.
هُم: امرؤ القيس، عنترة بن شداد، عمرو بن كلثوم، طرفة بن العبد، لبيد بن ربيعة، الحارث بن حلزة، زهير بن أبي سلمى. هؤلاء هُم مَن عَلَّقُوا بنبوغهم الشعري ثريا الشعر العربي القديم.
المقدمة الطللية أول ما يَسترعي انتباهَك في هيكل المعلَّقات:
«قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ» [مُسْتَهَلّ معلقة امرئ القيس].
«لِخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
تَلُوحُ كَبَاقِي الْوَشْمِ فِي ظَاهِرِ الْيَدِ» [مُستهَلّ معلقة طرفة بن العبد].
«أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ
بِحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فَالْمُتَثَلَّمِ» [مُستهَلّ معلقة زهير بن أبي سلمى].
«عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّها فَمُقَامُهَا
بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا» [مُستَهَلّ معلقة لبيد].
«أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا
وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الْأَنْدَرِينَا» [مُستَهَلّ معلَّقة عمرو بن كلثوم].
«هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ» [مُستَهَلّ معلقة عنترة بن شداد].
«آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ
رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ» [مُستهَلّ معلقة الحارث بن حلزة].
بعد البكاء على الأطلال والوقوف عند وصف الديار التي باتت مهجورة، يأتي غرض الوصف، ثم يَليه الفخر... وعلى ذكر الفخر، فقد كان الحارث بن حلزة من أكثر الشعراء إجادة للفخر بقومه، ومن هنا شكل الحارث مضرب الْمَثَل، إذ يَكفي أن يضرب به المثل في شدة الفخر بقولهم «أفخر من الحارث بن حلزة».
أكثر ما اشتهر به امرؤ القيس هو قصته مع صويحباتِ عُنَيْزَة [كما يَحكي الزوزني في شرح المعلقات]، ومَن تَكون عنيزة هذه سِوى حبيبته التي تآمر عليها امرؤ القيس في يوم خرجَتْ فيه معهن، فما أن وجدهن يُقدمن على الاستحمام حتى استدرجَه النزقُ إلى سرقة ثيابهن، فمَن شاءت منهن الفوز بثيابها ما عليها إلا أن تَستجيب لأمره وتلبي شرطه وتَنجلي قُبَالَته ليوافيها بما يَستر جسدها.
صحيح أنهن تمنعن وأبين الخروج من الماء، لكن صده لهن وإبقاءه على ما يَستر أجسادهن جعلهن يوافقن وينفذن الشرط تباعا، غير أن تخَلُّف عنيزة عن سرب صديقاتها جعل الرجُلَ يُقسم أن يَذبح لهن راحلتَه إذا لَبَّت عنيزة، فما كان منها إلا أن امتثلَتْ بعد أن كانت قد أقسمَتْ، وبالفعل أذعن امرؤ القيس ونحر الراحلة وجمع لهن الحطب تمهيدا لِشَيّ الراحلة.
لكن هل انتهت قصة عنيزة هنا؟! القصة تستمر، فبعد أن يتناولن الطعام يبحث امرؤ القيس عن حيلة ليتقرب إلى عنيزة، فيَجعل صويحباتها يقنعنها أن تَحمله، ومن ثمة يتسلل إلى هودجها طامعا في تقبيلها.
الطيش الذي بدا جليا في مغامرات امرئ القيس الذي أبى إلا أن يؤرخها في شعره يَمضي في غير سياقه محتوى معلقة زهير بن أبي سلمى، فالسفاهة التي جمَّدَت عقل امرئ القيس وهو يركض كالفرس خلف رغباته غير المستعصية لا يَتقاطَع معها إلا حِلم زهير وحكمته.
زهير بن أبي سلمى حُقَّ له أن يُسَمَّى شاعر الحكمة، بل لِنَقُل إنه شاعر الحكمة رقم «1» في زمنه، ولا أدلّ على هذا من اشتمال قصيدته على عدد كبير من الأبيات الشعرية التي يَطيب للنفس أن تُصَفِّقَ لها نَشْوَى من فرط التلذذ بارتشاف جرعات الكأس التي تُحْيي: كأس الحكمة.
عن هذه الكأس المعتقة التي يَليق بنا أن نتريث عند كل جرعة منها قبل أن تُغادِرَ الحلق سنتحدث، ومُحَدِّثُنا زهير الذي يَقول من أجمل ما قاله:
«سَئِمْتُ تَكالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ
ثَمانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
وَأَعْلَمُ مَا فِي اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ
وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
رَأَيْتُ الْمَنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ
تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ» [معلقة زهير بن أبي سلمى].
فماذا بين شيخوخة الأمس وشيخوخة اليوم؟!
[لنا موعد بإذن الله].

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
10/03/2018
2942