+ A
A -
لا تحتاج الدول العربية أن توفر فقط مزيداً من المهن لمواطنيها وإنما أن ترتقي كثيراً بمستوياتهم المهنية. فالمهن، أو فرص العمل، لم تعد سهلة والمهنية لم تعد مضمونة. باتت الندرة تحكم الاثنين. في كل عام يزداد الطلب على الوظائف مع زيادة أعداد الخريجين وكثرة الراغبين في دخول سوق العمل. وفي كل عام أيضاً تتكرر شكاوى الناس من العنت والإهمال وكل ما يتعرضون له من أذى من بعض من يشغلون وظائف عامة بل وحتى من بعض من يؤدون أعمالاً فردية خاصة.
باتت المهنية في تراجع في القطاعين العام والخاص. في الدوائر الحكومية والمحلات التجارية. في الجامعات الوطنية والمدارس الخاصة. في المستشفيات العامة وعيادات بعض الأطباء. على شاشة الفضائيات الرسمية والقنوات المملوكة للقطاع الخاص. تراجعت المهنية بشكل ملموس تراجعاً يجب أن يدق ألف ناقوس. وبسبب تراجعها لم يعد الحكم على أية سياسة يكتفي بالنظر إلى ما توفره من فرص عمل وإنما بما تضمنه من أداء سليم للوظائف وبما تشدد عليه من أهمية الالتزام بالصدق والجدية والتفاني وكل ما يتصل بالمهنية من أبعاد.
ومع أن توفير مهن جديدة ليس بالأمر السهل، إلا أنه يبقى أسهل من تحقيق المهنية. فالمهنة هي النشاط الذي نؤديه أما المهنية فالطريقة المثلى التي نؤدي بها ذلك النشاط. المهنة هي الموقع الوظيفي الذي نشغله في مصنع أو مدرسة أو شركة أو أي مكان آخر. هي العمل الذي نقوم به متسلحين بمجموعة خبرات تعلمناها ومهارات اكتسبناها. هي الحرفة التي نؤديها منفردين أو بالتعاون مع آخرين مستعملين كل الأدوات والخبرات التي جمعناها عن طريق التعليم وخلال مسيرة الحياة. أما المهنية فموقف أخلاقي راق تجاه فكرة العمل نفسها وتصور ذهني ناضج عن قيمة المهنة والمعنى الإنساني العميق للوظيفة.
المهنية هي أن نعمل ليس فقط من أجل كسب المال وإنما لكي نرتقي بضمائرنا ونرتفع بإحساسنا الإنساني عندما ندخل السعادة على الناس بحل مشكلاتهم وتخفيف أعبائهم وتنظيم حياتهم بشكل أفضل. هي أداء العمل بتفان ودقة. هي معاملة الجمهور بأدب ولياقة. هي الهمة في إنجاز العمل والالتزام بتطبيق القانون بالتوازن بين نصه وروحه وبين شكله ورسالته. هي قهر الروتين وإبعاد العمل عن كل صور التعنت البيروقراطي. هي عدم طلب رشوة أو منفعة خاصة مقابل أداء العمل. هي التحضير المسبق لليوم التالي حتى تنجز الأعمال على أكمل وجه وبأقل وقت وأعلى دقة. هي الإجادة والحرص على أن يكون للمهنة روح وضمير. هي الإلمام بأصول المهنة والقدرة على تحمل المسؤوليات. هي الابتكار وتقديم الحلول. هي الارتقاء بالخبرات المهنية المتخصصة بالتعلم المستمر والتدريب المتكرر. هي كل الأخلاقيات القويمة والسلوكيات السليمة المفترض أن تقترن بالعمل. هي الترفع عن الميول الشخصية وعدم إدخال الاعتبارات السياسية والدينية والمذهبية في العمل. هي باختصار إشعار الآخرين بأنهم يتعاملون مع إنسان يحب عمله ويعرف كيف يؤديه بسرعة وبراعة ودقة.
ومثل هذا الشكل من المهنية يغيب اليوم عن كثير من المهن. فهناك طلاب يشكون من أساتذة لأنهم لا يعرفون كيف يشرحون بل وقد يجبرونهم على اللجوء إلى طلب دروس خاصة لديهم. ومرضى ينتظرون طويلاً في المستشفيات ثم لا يجدون العلاج الذي يطلبونه. ومشاهدون يخجلون من إعلاميين يتكلمون بجهل وغرور. ومحامون يترافعون في قضايا لم يدرسوها بعناية. واقتصاديون يزورون أرقاماً لا تصدقها البديهة. ومستهلكون يشكون رداءة مستوى الصناعة لأن أصحاب بعض الحرف اليدوية لم يعد لديهم من الصبر ما يكفي لإكمال ما بدؤوه على أتم وجه.
لقد باتت اللامهنية ضاربة في المجتمع بالطول والعرض. تحولت إلى شكوى من الجميع في الجميع. وربما بسبب تراجعها اندفع العامة إلى الثقة في كل ما هو مستورد من الخارج والشك في ما هو محلي منتج في الداخل. وليس من حل لتراجع المهنية إلا بالعمل على استرداد ثقافة الكفاءات. والكفاءات البشرية العربية ليست قليلة. فهي موجودة وليست نادرة. لكن النادر هو احترام ثقافة الكفاءات بأن تعود القناعة لدى العامة بأن الوظيفة لا يمكن الحصول عليها بالواسطة وإنما بالجدارة والاستحقاق. بأن المهنة لن تدوم إلا بالمداومة على المهنية. بأن الله يرى وأنه يحب أن يتقن كل امرئ عمله وليس فقط أن يؤديه. ثقافة الكفاءات يلزمها وجود كفاءات. وهذه ليست محدودة في العالم العربي. لكنها تعرضت لعقود طويلة للتهميش والإبعاد بعد أن تقدم أهل الثقة على أهل الخبرة وبعد أن تُركت ثقافة المجاملة تحل محل ثقافة المسؤولية. إن غياب المهنية مؤشر على الإهمال وسيطرة ثقافة سلبية تتساهل مع الرداءة ولا تعتني كما يجب بالجودة. وما لم تسترد ثقافة الكفاءات فلن تتحقق المهنية مهما تزايد عدد المهن.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
12/03/2018
2557