+ A
A -
مع التحولات الإقليمية والدولية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي اضطرت الهند إلى خلع ردائها الاشتراكي القديم وارتداء رداء اقتصاد السوق، فنجحت بامتياز في الانتقال من حال إلى حال، بل كان مردود هذا الانتقال عليها سريعا وإيجابيا.
ومن ثمار ما حدث، تبني الهند لـ«سياسة التوجه شرقا» بمعنى تعزيز علاقاتها مع دول «آسيان» بهدف الاستفادة من تجاربها والتعاون معها في ما يصب في صالح الطرفين، خصوصا أن في دول آسيان الملايين من ذوي الأصول الهندية ممن ينشطون في مختلف الحقول، بل ممن يملكون شيئا من النفوذين السياسي والاقتصادي، ناهيك عن أن روابط الطرفين ذات جذور عميقة تعود إلى زمن الحضارات القديمة. وقد رحبت سائر دول آسيان بالتوجه الهندي، ولم تجد فيه ما يدعو إلى الحذر كذلك الذي عادة ما يطفو في حالة أي تحرك صيني.
وقد بدا جليا إلى أي مدى توثقت الشراكة والثقة بين الطرفين خلال أعمال القمة التي استضافت الهند في نهاية يناير من العام الجاري على هامش احتفالاتها بيوم الجمهورية الـ69. إذ لم تدعُ الهند زعيم دولة أجنبية واحدة لمشاركتها تلك الاحتفالات كضيف شرف كما جرت العادة، وإنما وجهت الدعوة إلى كل زعماء دول الآسيان العشر، وهؤلاء لبوا الدعوة دون استثناء.
الجدير بالذكر أنه في العام الماضي حلت الذكرى الـ25 لتدشين حوار الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين، كما حلت الذكرى الـ15 لأول اجتماع بين الطرفين على مستوى القمة، والذكرى الخامسة لإطلاق الشراكة الاستراتيجية، علما أن الجانبين منخرطان منذ سنوات في 30 منصة من منصات الحوار الخاصة بمجالات متنوعة شاملة كل ما يمكن أن يخطر على البال.
وإذا تفحصنا الأرقام والإحصائيات، نجد أن الطرفين مجتمعين يشكلان ثقلا بشريا في حدود 1.85 بليون نسمة، وناتجا إجماليا يتجاوز 3.8 تريليون دولار، الأمر الذي يجعلهما معا ثالث أكبر اقتصاد في العالم. فإذا أضفنا حقيقة أن حجم تجارة الهند ودول آسيان في الاتجاهين تجاوز ما قيمته 76 بليون دولار، وأن حجم الاستثمارات الهندية في دول آسيان في الفترة 2007 - 2015 بلغ أكثر من 39 بليون دولار مقابل 49 بليون دولار من استثمارات دول آسيان في الهند في الفترة 2000 - 2016، فإننا أمام مشهد يحتم تعاون الجانبين أكثر فأكثر
ومما لا جدال فيه أن أهمية هذا التعاون بين الهند ورابطة آسيان قد تضاعفت اليوم على ضوء النفوذ الصيني المتعاظم في مياه المحيطين الهادي والهندي من ناحية، ثم على ضوء تهديدات الجماعات الإرهابية الساعية إلى مد أنشطتها إلى أراضي الطرفين من أجل زرع الفوضى من ناحية أخرى.
وعلى حين أن دول آسيان راغبة في أن تقوم الهند بدور استراتيجي أعظم إزاء التوسع الصيني الإقليمي خلال السنوات القليلة الماضية، بل ترى في الهند عامل توازن يبعد عنها - ولو نظريا - شبح الهيمنة الصينية، فإن نيودلهي تبدو حذرة. بمعنى أنها لا تريد الذهاب بعيدا إلى حد الاصطدام ببكين. وفي الوقت نفسه تكرر في كل الاجتماعات على مستوى وزراء الخارجية بأن الهند لن تسمح لأي كان المس بنفوذها في دول آسيان لأنه نفوذ لم ينجم عن الغطرسة أو الاستعمار، وإنما تحقق من خلال الأسلحة الناعمة كالتواصل والتجارة والثقافة.
غير أن نيودلهي، وهي تشدد على مواقفها هذه، تعمل بالتزامن على تعزيز مركزها الاقتصادي في دول آسيان بصورة كما لو أنها تتصدى لمشروع «الحزام والطريق» الصيني الذي ترفضه وتقاومه وتتحسس منه دول آسيان. ولعل أوضح دليل على تحركات الهند في هذا السياق هو قيامها بتنفيذ طريق ثلاثي سريع بطول 1400 كيلومتر يربطها برا بميانمار وتايلاند وبالتالي بعدد آخر من دول آسيان. وبطبيعة الحال فإن كل هذا سوف يعزز التبادل التجاري والتواصل السكاني والتعاون الفني بين الجانبين.

بقلم : د. عبدالله المدني
copy short url   نسخ
18/03/2018
2469