+ A
A -
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني، وأنسنته، ليكون خطاباً يحتضن الإنسان لكونه إنساناً مكرماً من الخالق عز وجل، يحصن الشباب من فكر الغلو والكراهية والخرافة والعدمية والفوضى، يعيد الاعتبار إلى قيمة الحياة ويحبب الشباب في الحياة، ويشحن طاقاتهم في ميادين البناء والتنمية والإنتاج والابتكار والإبداع، وخدمة الوطن، باعتبارها ميادين الجهاد الحقيقي في سبيل الله تعالى، ويقدم صورة حضارية جاذبة للإسلام، نريد خطاباً دينياً جديداً يقربنا ولا يباعدنا، يجمعنا ولا يفرقنا، يعين على التآلف والتعاون بين الطوائف والمذاهب في مجتمعاتنا، يقوي العلاقات بينها، ولا يكون عامل تأزيم وفرقة بين دولنا.
خطاب متصالح مع الذات ومع العالم، نريد خطاباً يسعدنا ولا يشقينا، يشيع الفرح والبهجة والمحبة في نفوسنا، وحب الخير والتسامح والأمل في نفوس أبنائنا، نريد خطاباً يبشر المؤمنين، ورحمة ونوراً وهداية للعالمين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين يوسع دائرة المباحات والطَّيِّبَات قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطَّيِّبَات من الرزق ويستجيب لمتغيرات العصر ومتطلباته، يرفع الحرج والعنت عن الناس، ويلتمس لهم أعذاراً في قصورهم وأخطائهم، ويقول للناس حسناً (وقولوا للناس حسناً)
كيف السبيل إلى هذا الخطاب الجديد؟
الملاحظ أنه رغم الدعوات الملحة إلى تجديد الخطاب الديني، ومطالبة القادة والزعماء، المؤسسات الدينية الرسمية بذلك، إلا أن هذا الأمر لم يترجم على أرض الواقع، في تعليم ديني منفتح على الآخر، وفِي فتاوى تراعي متغيرات العصر، وفِي خطب منبرية جامعة للأطياف الدينية والمذهبية المجتمعية، تضيء أوجه الشراكة النافعة بين أتباعها، مازال الخطاب الديني السائد، على ما هو عليه، يكرر نفسه، متعلقاً بالماضي، يلتمس منه الحلول لقضايا الحاضر، لا يزال خطاباً غاضباً، مهدداً ومتوعداً، مهجوسا بالمخاوف والمؤامرات، يوزع الاتهامات، ويصب اللعنات، يتوسع في المحرمات ويحاكم الناس على النيات.
لماذا لم يتحقق التجديد، رغم كثرة المحاولات، وصدق النيات؟ ما هي العقبات والمعوقات؟
إن من أكبر العوائق أمام تطوير الخطاب الديني، هو أنه حتى الآن لا توجد قناعة حقيقية عامة بضرورة التجديد، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: الممانعة الفكرية والسياسية: التي حمل رايتها طائفة من الكتاب والباحثين والمفكرين الإسلاميين ضد أي دعوة إلى تجديد الخطاب الديني، هؤلاء لم يكتفوا برفض الدعوة إلى التجديد، بل شنوا حملة تحريضية، وهيجوا الجماهير ضد الدعوة ودعاتها، واتهموهم بخدمة المخططات الخارجية، والخضوع للضغط الغربي والإملاء الأميركي، كون دعوات تجديد الخطاب الديني، انطلقت في فضاء المنطقة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، بحجة محاربة الإرهاب، لكن كان هدفها الحقيقي: إلغاء أو مسخ التعليم الديني، وحذف آيات الجهاد، وطمس الهوية الإسلامية، والتغريب، والتبعية، والمشي في ركاب الغرب وأميركا، ومنطلقها الأساس: الرواسب الصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين، هكذا قيل من قبل أبرز الخطباء الدينيين من على منابر الجوامع في الخليج.
وهناك الكاتبة المصرية التي شنت هجومها على الأزهر، في تصديه لتجديد الخطاب الديني، واتهمته بحذف (ما تفعله إسرائيل حالياً، من طرد وتشريد شعب وهدم منازله، من مناهج التربية الدينية، لطلاب الإعدادي، بحجة مراعاة المشاعر السنية لهم) خدمة للصهيونية، كما رأت في الخطبة الموحدة وتجريم الدعاء على الآخرين، اتجاهاً نحو ما سمته علمانية الخطاب الديني.
أما الكاتبة الأردنية إحسان الفقيه، فرأت في الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني دعوة هدامة، تقودها أميركا، بهدف علمنة بلاد الإسلام وفصل الدين عن شؤون الحياة
ورأى آخرون، في دعوة التجديد غطاء لتدخل السلطة السياسية، بهدف التحكم في المناهج والعلماء، ولعل أقوى لا لتجديد الخطاب الديني، قالها، المفكر الإسلامي الكبير المستشار طارق البشري: إذا كانت أميركا تملي علينا تجديد الخطاب الديني، فلنقل لها: لا، حتى لا يكون إملاء أميركياً! وهذا ما دعا المفكر المصري سعد الدين إبراهيم إلى تسمية هذا النهج في التفكير بـ فقه النكاية أي نكاية في أميركا، لن نجدد الخطاب الديني ولن نراجع المناهج التعليمية!!
ختاماً: الحاجة ملحة اليوم لإعادة تشغيل طاقات التجديد بخطاب ديني منفتح على العصر وقادر على مواجهة التحديات وتحمل المسؤوليات، ومن السخف أن يقال إن الآخر يطالبنا بالتجديد، فلنؤجل أو نرفض نكاية به، فهذا عبث لا يلتفت إليه، لأن هذا الخطاب المأزوم قد أزمن واستطال وعمق الخلافات والانقسامات المذهبية والطائفية، وشحن شبابنا بثقافة معادية للحضارة وللعالم، ولمجتمعاتنا ودولنا وأنظمتنا، علينا عدم الالتفات إلى هذه الادعاءات الواهية، لأن منطلقها فكر تخويني بائس، يريد استدامة الوضع العليل للخطاب الديني، بهدف استدامة الوصاية على المجتمع، وفرض الهيمنة، واستدامة مصالحه، عبر التلاعب بالعاطفة الدينية الجماهيرية، وإقصاء دعاة التجديد، ووصمهم بأنهم عملاء للخارج، يخدمون مخططاته..

بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
19/03/2018
4626