+ A
A -
يزداد اليمين المتطرف قوة في أكثر من مكان حول العالم. ومع صعوده ارتفعت شعارات تنادي «أميركا أولاً»، «وإيطاليا أولاً»، «وهولندا أولاً»، «وألمانيا أولاً». وكان أن طار الشعار إلى بلدان آسيوية وأفريقية كما تردد في بعض البلدان العربية. ولا غضاضة في رفع شعار كهذا لو كان من أجل إظهار حب الوطن. لكن الوطنية شيء والتعصب الوطني، أو الشوفينية، شيء آخر. الوطنية أن تعشق بلدك. أما الشوفينية فأن تتعصب لها إلى درجة أن تكره غيرها. أن تبغض الأجانب وتنادي بطردهم.
أن تبني الأسوار وتنسحب من الاتفاقيات والمنظمات الدولية. أن تقيم حواجز جمركية متعسفة تمنع تدفق التجارة. أن تنتخب ساسة متطرفين يفعلون كل هذا وأشياء أخرى كثيرة مريبة جرت خلال السنوات القليلة الماضية.
وقبل نحو أسبوعين طاف أوروبا أحد نجوم اليمين الأميركي. إنه «ستيفن بانون» كبير المخططين الاستراتيجيين سابقاً للرئيس «ترامب». ألقى «بانون» في فرنسا خطاباً أمام تجمع لأنصار الجبهة الوطنية المتطرفة قال فيه «إن التاريخ يقف إلى جانبنا وسوف يجلب لنا الانتصار. انكم جزء من حركة أكبر من تلك التي في إيطاليا وبولندا والمجر. لقد قال رئيسنا الغالي ترامب كفانا ما فعله بنا أنصار العولمة. إنكم تقاتلون من أجل بلدانكم لكنهم يصفونكم بالعنصريين. لكن الأيام التي كان يُلقى فيها بالاً لتلك الإهانات قد ولت. فكل يوم نزداد قوة بينما يزدادون هم ضعفاً. دعهم يسمونكم عنصريين ومعادين للأجانب. كل ما عليكم أن تضعوا هذه الأوصاف كوسام على صدوركم » .
ثم عاد «بانون» ليكرر نفس المعاني في إيطاليا أمام أنصار حركة النجوم الخمسة وحزب «ليجا نورد» ممتدحاً الانتصار الذي حققه اليمينيون في الانتخابات التشريعية الأخيرة ومشيداً بموقف ترامب المناهض للعولمة والهجرة والتجارة الحرة. من أوروبا بشر «بانون» بمولد حركة دولية تجمع قوى اليمين المتطرف، حركة لا تكترث بما يمكن أن تنشره من عنصرية وبغضاء حول العالم. ومن أجل نصرة تلك الحركة الجديدة أيضاً ذهبت «ماريون مارشال لوبان» ابنة شقيق زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية إلى واشنطن لتخطب في جمع للمحافظين الأميركيين أعربت أمامه عن إعجابها بسياسة «ترامب» وقالت «لا أشعر بالإزعاج عندما أسمع الرئيس ترامب يقول أميركا أولاً. في الحقيقة أريد أن تكون أميركا أولاً للأميركيين وبريطانيا أولاً للبريطانيين وفرنسا أولاً للفرنسيين». ومثل «بانون» الذي بشر بأن اليمين الأوروبي سيكسب المعركة ضد أنصار العولمة، قالت «لوبان» «جئت اليوم لأقول لكم إن هناك شبانًا مستعدون لتلك المعركة في أوروبا..فلنواصل البناء على ما أنجزتموه هنا حتى يسود الاتجاه المحافظ على جانبي الأطلسي».
وفي قارة حققت نجاحاً مبهراً في تكاملها الإقليمي واندماجها الاقتصادي والاجتماعي لم يكن لأوروبا أن تشعر لا بالارتياح من صعود اليمين ولا من تشجيع أميركا له. أوروبا المندمجة لا يمكن أن تنسى وهي تسمع «إيطاليا أولاً» و«ألمانيا أولاً» مرحلة ما بين الحربين العالميتين وكيف نمت خلالها قوى اليمين المتطرف إلى أن أججت الصراعات وأشعلت الحرائق. ولهذا انطلق ساسة وكتاب أوروبيون يدعون إلى التفرقة بين أن يأتي الوطن أولاً كدليل على دفء المشاعر وأن يأتي أولاً كسياسة متطرفة تُبنى على البغض والعداء للآخرين. في موضوع التجارة مثلاً، كان وزير المالية الألماني «بيتر التماير» صريحاً عندما قال «إن ترامب لن ينجح في تقسيم الاتحاد الأوروبي ولن يجعل دول أوروبا تنقلب ضد بعضها البعض».
باليقين ليس خطأ أن يضع الناس أوطانهم أولاً طالما كان ذلك ضمن الإطار الإنساني العام الذي يجعل كل فرد يحب بلده أكثر من غيرها. لكن أن يوضع الشعار ضمن أيديولوجية متزمتة تلقي بالتبعة على الآخرين فلن يكون ذلك إلا سبباً لمزيد من عدم استقرار العلاقات الدولية. وهو ما يفعله اليمين المتطرف اليوم بحجة ما أحدثته العولمة من ارتباك. وبرغم منطقية بعض طروحاته ضد العولمة إلا أن حمولته العنصرية لن تجعله يُسهم في صنع السلام أو حتى تقليل احتمالات الحرب. فهو يتغذى على بث القلق من الوافدين والمهاجرين والشركات الدولية والتجارة الحرة والإعلام المفتوح.
إنه يمينٌ متطرف وليس محافظاً كما يدعي. يهاجم الآخرين ليتهرب من مسؤولياته ويبحث عن كبش فداء يحمّله ما تواجهه بلدانه من صعوبات. وقد نجح مؤخراً في تحقيق اختراق في القارة التي سبق أن أشعلت حربين عالميتين. وهو يطور حالياً حركة دولية متطرفة يريدها أن تنهي فترة العولمة الليبرالية التي بشرت بانتشار الديمقراطية والمجتمع المفتوح وحقوق الانسان والترابط الكوني. وهي حركة تزداد جموحاً وجنوحاً في ظل سيولة دولية لا تتوقف. إنه اتجاه كوني جديد شرس سيزيد العالم توتراً ما لم يسترد التيار الإنساني حيويته ليبقى كل فرد محباً ومخلصاً لوطنه دون أن يحول ذلك إلى حمولة عنصرية مقيتة.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
26/03/2018
2198