+ A
A -
بعضنا يعيش حياة تغشاها الرتابة والملل، وأحيانا الألم، فكثيرة هي الهموم وبواعث الأحزان في هذا الزمن المترع بالحروب والصراعات، فالعالم من حولنا يضج بالأزمات الكارثية المهينة للإنسان، فضلا عن الضغوط الشخصية أو الذاتية التي أغلبها يستعصي على الحل.
أحد الاصدقاء الشباب كان يقول لي إنه يقهر أحزانه وضغوطه بالموسيقى، وكنت استخف بوصفة علاجه هذه، مع كامل تقديري واحترامي للموسيقى، إذ ان تحميل الموسيقى مهمة تخليصنا من أوجاعنا وأسقامنا ربما فوق طاقة الموسيقى، فالإنصات إليها يمكن ان يغزونا بطاقة إيجابية بعض الوقت، وليس طول الوقت، وكان صديقي هذا يحاجج فيما يعتقده بميراث ابن سينا الذي كان يتخذ من الموسيقى منهجا في مداواة مرضاه، ويستشهد بقول الغزالي، وهو إمام فقيه وفيلسوف: «من لم يهزّه العود وأوتاره والربيع وأزهاره فهو فاسد المزاج يحتاج إلى علاج».
لم يكن يقصدني بتهمة فسدان المزاج هذه، لأنه يعرف قبل غيره عشقي المفرط للموسيقى، ولكني فقط لا أحملها فوق طاقتها في مواجهتها أزماتنا، حيث كنت أعتقد ان علاج هذه الأزمات يحتاج إلى وسائل أخرى.
صديقي المشار إليه ذهب خلسة إلى منطقة بوسط القاهرة وابتاع منها سرا آلة عود بمبلغ زهيد، وكنت اعرف ان لديه اورجا اليكترونيا كبيرا في منزله، ليفاجئنا بعد شهور انه اصبح عازفا ماهرا على هاتين الآلتين، وبالخصوص العود، وليباغتنا كذلك بعد نحو العام انه التحق بعالم تلحين الاغاني، وانه اتفق مع مطرب عربي معروف على تلحين باكورة إنتاجه الغنائي، بعدما اصبح موسيقيا مجتهدا، وبعدما عرج بالدراسة العميقة على تاريخ الموسيقى العربية وأهم عباقرتها ومشاهيرها، حتى انه يبدي ثقته بان أغانيه الأولى ستلفت مطربين ومطربات إليه، وان الطريق إلى الشهرة صار مفروشا بالورود.
أعرف حجم الأزمات الخاصة التي كان يعيشها هذا الصديق الشاب، ولذلك كنت منبهرا من كيفية استطاعته الخروج من هاوية هذه الأزمات باستثمار عبقري لموهبته الموسيقية التي اجتلتها الأوجاع، فنحن أحيانا نجهل ان الضغوط القاسية في الحياة تكون الخطوة السابقة لفرج كبير، وان هذه الازمات هي التي تفك فينا شفرة الابداع، وتأخذ بيدنا إلى عتباته الأولى.
الروائي الروسي الرائع تولستوي لم تنجل موهبته الروائية الا بسبب عذابات زوجته له، فقد كانت تطرق على رأسه الاصلع بطنجرة أو طاسة الطعام حينما كان يغضبها أو تغضبه، ويبدو ان ضرباتها على رأسه هي التي كانت تعيد ترتيب أفكاره فيقدم لنا رواياته الجميلة، ففي أحشاء العذاب تلتمع المواهب، غير ان ذلك ليس ضرورة وشرطا من شروط ولادة واجتلاء الابداع، فليس بالعذاب وحده تتقد الموهبة أو تبرع ابداعات المبدعين.
تمنيت لو كنت شاعرا غنائيا حتى أهدي هذا الصديق الشاب بعض أشعاري لتلحينها، ولكني لم أكتب الشعر قط، ويستحيل على المرء ان يذهب إلى «كتاب» ديوان العرب بعد ان شاب وشبع شيبا.

بقلم : حبشي رشدي
copy short url   نسخ
27/03/2018
1866