+ A
A -
عقارب الوقت لا تعود للوراء، لكن رغم ذلك التاريخ يتقدم ليقول كلمته في الوقت المناسب!
التاريخ- هذا الكائن الطويل العجوز الأشيب المُغبّر- يشبه الإنسان، ولا يشبهه!
هو له ذاكرة وله نظرة وله لسان وشفتان.. وله رجلان يمشى بهما إلى الأمام، يحاول عبثًا اللحاق بالحاضر.. له ماض..
وهو- من حيث هو ليس شبيهاً كلياً بالإنسان- ليس له حاضر، وليس له مستقبل.. ليس له من مستقبل إلا في إعادة ذاته بطريقة ساخرة.. أو بطريقة كارثية مأساوية، أو بطريقة عبثية!
.. ولأن عقارب الوقت لا تعود للوراء، فالتاريخ لن يعود منه إلا.. لسانه.. وهو حين يعود ليقول كلمته، يقولها غير عابئ بفلان أو فلتكان، ولا يهمه إطلاقاً أن تستقيم الدنيا له، أو لتطبق عليه من كافة جهاتها، ليروح في ستين داهية!
أمم كثيرة، لم تُلق للسان التاريخ، أذنًا مفتوحة، كان لسانه يتحرك مرة بالموعظة، ومرة بالحكمة، يضرب مثلاً من بعد مثل، لكن تلك الأمم- صواحب المسامع الصُم- لا اتعظت، ولا أورثتها حكمة التاريخ، حكمة، ولا تفكرت، فكان منطقياً أن تصير هي ذاتها، بذاتها.. مضرباً للمثل المضروب!
زعماءٌ كثرٌ، في هذه الدنيا، كانت مصيبتهم التي أودت بهم إلى مزابل التاريخ، أنهم لم يقرؤوا التاريخ، أو هم لو قرؤوه، لم يخرجوا منه- من تجاربه- بما ينفعهم هٌم، وينفع بالتالي من هُم دونهم من الناس..
أولئك الذين فوتوا على أنفسهم حصص التاريخ، ما أكثرهم.. وما أشنع نهاياتهم.. وما أشنع نهايات أشباههم من الذين لم يتلقوا دروس التاريخ، إلا بعقل أخذته العزة بإثم المكابرة، والمغالطة حتى... الهلاك!
لو أعيدوا من بعد هلاك، لكانوا قد استوعبوا الدرس.. لكن الدرس انتهى.. ما أغباهم!
مثلهم تماماً- في غبائهم- من يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بظن إعادة التاريخ، كما هو.. كلياً، بكل ملامحه.. وكل حضوره الطاغي، الذي كان!
ذلك ظن فاسد..
وهم بهذا الظن، إنما يضيعون على أنفسهم شرف الحضور الذكي، في اليوم، ذلك الذي سيستحيل هو الآخر إلى تاريخ، متى ما أشرقت شمس اليوم التالي.. وهم إذ يضيعون ذلك الشرف الرفيع، إنما يضيعون شرف التفرس في تخوم يوم بكرة، في ذات الوقت!
أظن أنني وصلت إلى القول، إن الأمم العظيمة، إنما هي الأمم التي تستهدي بالتاريخ.. لترسم على هدى تجاربه ودروسه ومواعظه، حاضرها، وتستشرف بالاثنين- التاريخ والحاضر معاً- معالم مستقبلها.
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
28/03/2018
2329